واعلم أن قوله ﴿أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ﴾ فيه مسألتان :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس /قال مقاتل، ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله.
المسألة الثانية : قوله ﴿أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله ﴿وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ﴾ (البقرة : ٩٨) وقوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ (الأحزاب : ٧٠) ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله ﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال بعضهم كلمة ﴿مِنْ﴾ ههنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم، وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة ﴿مِنْ﴾ ههنا لابتداء الغاية، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا ؟
فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم، واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى :﴿وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأحقاف : ٣١) وهو قول أبي حنيفة، والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية/ وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة، قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بين البابين بعيد جداً.
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك تلك الإجابة فقال :﴿وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ﴾ أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الارْضِ وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا﴾ (الجن : ١٢) ولا نجد له أيضاً ولياً ولا نصيراً، ولا دافعاً من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم المختار، ثم فرع عليه فرعين : الأول : إبطال قول عبدة الأصنام والثاني : إثبات النبوّة وذكر شبهاتهم في الطعن في النبوة، وأجاب عنها، ولما كان أكثر إعراض كفار مكة عن قبول الدلائل بسبب اغترارهم بالدنيا واستغراقهم في استيفاء طيباتهم وشهواتها، وبسبب أنه كان يثقل عليهم الانقياد لمحمد والاعتراف بتقدمه عليهم ضرب لذلك مثلاً وهم قوم عاد فإنهم كانوا أكمل في منافع الدنيا من قوم محمد فلما أصروا على الكفر أبادهم الله وأهلكهم، فكان ذلك تخويفاً لأهل مكة بإصرارهم على إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم لما قرر نبوته على الإنس أردفه بإثبات نبوته في الجن، وإلى ههنا قد تم الكلام في التوحيد وفي النبوة، ثم ذكر عقيبهما تقرير مسألة المعاد ومن تأمل في هذا البيان الذي ذكرناه علم أن المقصود من كل القرآن تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد، وأما القصص فالمراد من ذكرها ما يجري مجرى ضرب الأمثال في تقرير هذه الأصول.
المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، والدليل عليه أنه تعالى أقام الدلائل في أول هذه السورة على أنه ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ ولا شك أن خلقها أعظم وأفخم من إعادة هذا الشخص حياً بعد أن صار ميتاً، والقادر على الأقوى الأكمل لا بد وأن يكون قادراً على الأقل والأضعف، ثم ختم الآية بقوله ﴿إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ والمقصود منه أن تعلق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكناً في نفسه لما وقع أولاً، والله تعالى قادر على كل الممكنات، فوجب كونه قادراً على تلك الإعادة، وهذه الدلائل يقينية ظاهرة.
المسألة الثالثة : في قوله تعالى :﴿بِقَـادِرٍ﴾ إدخاله الباء على خبر إن، وإنما جاز ذلك لدخول حرف النفي على أن وما يتعلق بها، فكأنه قيل أليس الله بقادر، قال الزجاج لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز، ولا يجوز ظننت أن زيداً بقائم والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الرابعة : يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه ومنه ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ ﴾ (ق : ١٥).


الصفحة التالية
Icon