ثم قال تعالى :﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ أي سترها وفيه إشارة إلى بشارة ما كانت تحصل بقوله أعدمها ومحاها، لأن محو الشيء لا ينبىء عن إثبات أمر آخر مكانه، وأما الستر فينبىء عنه، وذلك لأن من يريد ستر ثوب بال أو وسخ لا يستره بمثله، وإنما يستره بثوب نفيس نظيف، ولا سيما الملك الجواد إذا ستر على عبد من عبيده ثوبه البالي أمر بإحضار ثوب من الجنس العالي لا يحصل إلا بالثمن الغالي، فيلبس هذا هو الستر بينه وبين المحبوبين، وكذلك المغفرة، فإن المغفرة والتكفير من باب واحد في المعنى، وهذا هو المذكور في قوله تعالى :﴿فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ ﴾ (الفرقان : ٧٠) وقوله ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ إشارة إلى ما ذكرنا من أنه يبدلها حسنة، فإن قيل كيف تبدل السيئة حسنة ؟
نقول معناه أنه يجزيه بعد سيئاته ما يجزى المحسن على إحسانه، فإن قال الإشكال باق وباد، وما زال بل زاد، فإن الله تعالى لو أثاب على السيئة كما يثيب عن الحسنة، لكان ذلك حثاً على السيئة، نقول ما قلنا إنه يثيب على السيئة وإنما قلنا إنه يثيب بعد السيئة بما يثيب على الحسنة، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة، ثم يتنبه ويندم ويقف بين يدي ربه معترفاً بذنبه مستحقراً لنفسه/ فيصير أقرب إلى الرحمة من الذي لم يذنب، ودخل على ربه مفتخراً في نفسه، فصار الذنب شرطاً للندم، والثواب ليس على السيئة، وإنما هو على الندم، وكأن الله تعالى قال عبدي أذنب ورجع إليّ، ففعله شيء لكن ظنه بي حسن حيث لم يجد ملجأ غيري فاتكل على فضلي، والظن عمل القلب، والفعل عمل البدن، واعتبار عمل القلب أولى، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه لا يلتفت إلى عمل بدنه، والمفلوج الذي لا حركة له يعتبر قصد قلبه، ومثال الروح والبدن راكب دابة يركض فرسه بين يدي ملك يدفع عنه العدو بسيفه وسنانه، والفرس يلطخ ثوب الملك بركضه في استنانه، فهل يلتفت إلى فعل الدابة مع فعل الفارس، بل لو كان الراكب فارغاً /الفرس يؤذي بالتلويث يخاطب الفارس به، فكذلك الروح راكب والبدن مركوب، فإن كانت الروح مشغولة بعبادة الله وذكره، ويصدر من البدن شيء لا يلتفت إليه، بل يستحسن منه ذلك ويزاد في تربية الفرس الراكض ويهجر الفرس الواقف، وإن كان غير مشغول فهو مؤاخذ بأفعال البدن ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الباطل وجوه الأول : ما لا يجوز وجوده، وذلك لأنهم اتبعوا إلهاً غير الله، وإله غير الله محال الوجود، وهو الباطل وغاية الباطل، لأن الباطل هو المعدوم، يقال بطل كذا، أي عدم، والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد، ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً، فهو في غاية البطلان، فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى، وذلك لأن الحق هو الموجود، يقال تحقق الأمر، أي وجد وثبت، والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني : الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى :﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٥) فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار، وعلى هذا فالحق هو الله، لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث : الباطل، هو قول كبرائهم ودين آبائهم، كما قال تعالى عنهم :﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ﴾ (الزحرف : ٢٢) ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع : الباطل كل ما سوى الله تعالى، لأن الباطل والهالك بمعنى واحد. و﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ (القصص : ٨٨) وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً.
المسألة الثانية : لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه، وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله، فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله ﴿اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ نقول على هذا ﴿مِّن رَّبِّهِمُ﴾ لا يكون متعلقاً بالحق، وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى :﴿اتَّبَعُوا ﴾ أي اتبعوا أمر ربهم، أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق، وهو الله سبحانه.
المسألة الثالثة : إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده، فكيف يمكن اتباعه ؟
نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم، ولا متبع هناك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢


الصفحة التالية
Icon