المسألة الثالثة : ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه : لما بيّن أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع، وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله بل يتدرج ويضرب على غير المقتل، فإن اندفع فذاك ولا يترقى إلى درجة الإهلاك، فقال تعالى ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض، وتطهير الأرض منهم، وكيف لا والأرض لكم مسجد، والمشركون نجس، والمسجد يطهر من النجاسة، فإذاً ينبغي أن يكون قصدكمم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصائل، والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك، والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع، ولا سيما في الحرب، وفي قوله ﴿لَقِيتُمُ﴾ ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل لأن قوله ﴿لَقِيتُمُ﴾ يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم، ولذلك قال في غير هذا الموضع ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (البقرة : ١٩١).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الرابعة : قال ههنا ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ بإظهار المصدر وترك الفعل، وقال في الأنفال ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ (الأنفال : ١٢) بإظهار الفعل، وترك المصدر، فهل فيه فائدة ؟
نقول نعم ولنبينها بتقديم مقدمة، وهي أن المقصود أولاً في بعض السور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر /ضمناً، إذ لا يمكن أن يفعل فاعل إلا ويقع منه المصدر في الوجود، وقد يكون المقصود أولاً المصدر ولكنه لا يوجد إلا من فاعل فيطلب منه أن يفعل، مثاله من قال : إني حلفت أن أخرج من المدينة. فيقال له : فاخرج، صار المقصود منه صدور الفعل منه والخروج في نفسه غير مقصود الانتفاء، ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه إلا أن يخرج لكن من ضرورات الخروج أن يخرج/ فإذا قال قائل ضاق بي المكان بسبب الأعداء فيقال له مثلاً الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب حتى لو أمكن الخروج من غير فاعل لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل، إذا عرفت هذا فنقول في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا لنصرة من حضر في صف القتال فصدور الفعل منه مطلوب، وههنا الأمر وارد وليس في وقت القتال بدليل قوله تعالى :﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ﴾ والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمور على الفعل قال :﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ وفيما ذكرنا تبيين فائدة أخر وهي أن الله تعالى قال هناك ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال : ١٢) وذلك لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى المقتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل، وههنا ليس وقت القتال فبيّن أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
المسألة الخامسة :﴿حَتَّى ﴾ لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي حتى إذا اثخنتموهم لا يبقى الأمر بالقتل، ويبقى الجواز ولو كان لبيان القتل لما جاز القتل، والقتل جائز إذا التحق المثخن بالشيخ الهرم، والمراد كما إذا قطعت يداه ورجلاه فنهى عن قتله.
ثم قال تعالى :﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ أمر إرشاد.
ثم قال تعالى :﴿فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :(إما) وإنما للحصر وحالهم بعد الأسر غير منحصر في الأمرين، بل يجوز القتل والاسترقاق والمن والفداء، نقول هذا إرشاد فذكر الأمر العام الجائز في سائر الأجناس، والاسترقاق غير جائز في أسر العرب، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كان معهم فلم يذكر الاسترقاق، وأما القتل فلأن الظاهر في المثخن الإزمان، ولأن القتل ذكره بقوله ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ فلم يبق إلا الأمران.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الثانية : مناً وفداءً منصوبان لكونهما مصدرين تقديره : فإما تمنون مناً وإما تفدون فداءً وتقديم المن على الفداء إشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال، والفداء يجوز أن يكون مالاً يكون وأن يكون غيره من الأسرى أو شرطاً يشرط عليهم أو عليه وحده.
المسألة الثالثة : إذا قدرنا الفعل وهو تمنون أو تفدون على تقدير المفعول، حتى نقول إما تمنون عليهم منا أو تفدونهم فداء، نقول لا لأن المقصود المن والفداء لا عليهم وبهم كما يقول /القائل : فلان يعطي ويمنع ولا يقال يعطي زيداً ويمنع عمراً لأن غرضه ذكر كونه فاعلاً لا بيان المفعول، وكذلك ههنا المقصود إرشاد المؤمنين إلى الفضل.
ثم قال تعالى :﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾.
وفي تعلق ﴿حَتَّى ﴾ وجهان أحدهما : تعلقها بالقتل أي اقتلوهم حتى تضع وثانيهما : بالمن والفداء، ويحتمل أن يقال متعلقة بشدوا الوثاق وتعلقها بالقتل أظهر وإن كان ذكره أبعد، وفي الأوزار وجهان أحدهما : السلاح والثاني : الآثام وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon