لمسألة الثالثة : قال :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ﴾ خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضاً له التمتع بالدنيا وطيباتها، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئاً يسيراً أيضاً لا يذكر إلا بالملك العظيم، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئاً يسيراً فلا يذكر إلا به، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا، ووجه آخر : الدنيا للمؤمن سجن كيف كان، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع، فإن قيل كيف تكون الدنيا سجناً مع ما فيها من الطيبات ؟
نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة، وفيها سباع وحشرات كثيرة، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا ؟
وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا ؟
. /كذلك حال المؤمن، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياماً في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة، ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال، لكنه ينبىء ذا البال، عن حقيقة الحال.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
وقوله تعالى :﴿كَمَا تَأْكُلُ الانْعَـامُ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحاً ويقوى عليه وثانيها : الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها : الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى :﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾.
المسألة الرابعة : قال في حق المؤمن ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ﴾ بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ بصيغة تنبىء عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم، والمعذب من غير استحقاق ظالم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
لما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ﴾ (محمد : ١٠) ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلاً تسلية له فقال :﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـاهُمْ﴾ وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم، فاصبر كما صبر رسلهم، وقوله ﴿فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ قال الزمخشري كيف قوله ﴿فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ مع أن الإهلاك ماض، وقوله ﴿فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ للحال والاستقبال ؟
والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر، ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه، ويحتمل أن يقال قوله ﴿فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢


الصفحة التالية
Icon