المسألة الأولى : على قول من قال :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ معناه وصف الجنة فقوله ﴿كَمَنْ هُوَ﴾ بماذا يتعلق ؟
نقول قوله ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ يتضمن كونهم فيها فكأنه قال هو فيها كمن هو خالد في النار، فالمشبه يكون محذوفاً مدلولاً عليه بما سبق، ويحتمل أن يقال ما قيل في تقرير قول الزمخشري أن المراد هذه الجنة التي مثلها ما ذكرنا كمقام من هو خالد في النار.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الثانية : قال الزجاج قوله تعالى :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾ راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فهل هو صحيح أم لا ؟
نقول لنا نظر إلى اللفظ فيمكن تصحيحه بتعسف ونظر إلى المعنى لا يصح إلا بأن يعود إلى ما ذكرناه، أما التصحيح فبحذف كمن في المرة الثانية أو جعله بدلاً عن المتقدم أو بإضمار عاطف يعطف ﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ﴾ على ﴿كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه ﴾ أو ﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾، وأما التعسف فبيّن نظراً إلى الحذف وإلى الإضمار مع الفاصل الطويل بين المشبه والمشبه به، وأما طريقة البدل ففاسدة وإلا لكان الاعتماد على الثاني فيكون كأنه قال : أفمن كان على بينة كمن هو خالد ؟
وهو سمج في التشبيه تعالى كلام الله عن ذلك، والقول في إضمار العاطف كذلك لأن المعطوف أيضاً يصير مستقلاً في التشبيه، اللّهم إلا أن يقال المجموع بالمجموع كأنه يقول : أفمن كان على بينة من ربه، وهو في الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار، كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار، وعلى هذا تقع المقابلة بين من هو على بينة من ربه، وبين من زين له سوء عمله، وبين من في الجنة وبين من هو خالد في النار، وقد ذكرناه فلا حاجة إلى خلط الآية بالآية، وكيف وعلى ما قاله تقع المقابلة بين من هو في النار وسقوا ماءً حميماً وبين من هو على بينة من ربه وأية مناسبة بينهما، بخلاف ما ذكرناه من الوجوه الأخر فإن المقابلة بين الجنة التي فيها الأنهار وبين النار التي فيها الماء الحميم وذلك تشبيه إنكار مناسب.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الثالثة : قال :﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ﴾ حملاً على اللفظ الواحد وقال :﴿وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا﴾ على المعنى وهو جمع وكذلك قال من قبل ﴿كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه ﴾ (محمد : ١٤) على التوحيد والإفراد ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ على الجمع فما الوجه فيه ؟
نقول المسند إلى من إذا كان متصلاً فرعاية اللفظ أولى لأنه هو المسموع، إذا كان مع انفصال فالعود إلى المعنى أولاً، لأن اللفظ لا يبقى في السمع، والمعنى يبقى في ذهن /السامع فالحمل في الثاني على المعنى أولى وحمل الأول على اللفظ أولى، فإن قيل كيف قال في سائر المواضع ﴿مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ (سبأ : ٣٧) و﴿فَمَن تَابَ مِنا بَعْدِ ظُلْمِه وَأَصْلَحَ﴾ (المائدة : ٣٩) ؟
نقول إذا كان المعطوف مفرداً أو شبيهاً بالمعطوف عليه في المعنى فالأولى أن يختلفا كما ذكرت فإنه عطف مفرد على مفرد وكذلك لو قال : كمن هو خالد في النار ومعذب فيها لأن المشابهة تنافي المخالفة، وأما إذا لم يكن كذلك كما في هذا الموضع، فإن قوله ﴿السَّمَآءِ مَآءَ ﴾ جملة غير مشابهة لقوله ﴿هُوَ خَـالِدٌ﴾ وقوله تعالى :﴿وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا﴾ بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن/ ولهم ماء حميم، فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت، وقد ذكرت البعض وقلت بأن قوله ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ في مقابلة ﴿زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه ﴾ و﴿مِّن رَّبِّه ﴾ في مقابلة قوله ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ والجنة في مقابلة النار في قوله ﴿خَـالِدٌ فِى النَّارِ﴾ والماء الحميم في مقابلة الأنهار، فأين ما يقابل قوله ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ﴾ فنقول تقطع الأمعاء في مقابلة مغفرة لأنا بينا على أحد الوجوه أن المغفرة التي في الجنة هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة والأمراض وغيرها، كأنه قال : للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة، وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم، وأما الثمار فلم يذكر مقابلها، لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الرابعة : الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة، وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة، وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع، فإن قيل قوله تعالى :﴿فَقَطَّعَ﴾ بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر، نقول نعم، لكنه لا يقتضي أن يقال : يقطع، لأنه ماء حميم فحسب، بل ماء حميم مخصوص يقطع. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢


الصفحة التالية
Icon