لما بيّن الله تعالى حال الكافر ذكر حال المنافق بأنه من الكفار، وقوله ﴿وَمِنْهُمُ﴾ يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الناس، كما قال تعالى في سورة البقرة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ﴾ (البقرة : ٨) بعد ذكر الكفار، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى أهل مكة، لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى :﴿هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـاهُمْ﴾ (محمد : ١٣) ويحتمل أن يكون راجعاً إلى معنى قوله ﴿كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا﴾ (محمد : ١٥) يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك، وقوله ﴿حَتَّى ا إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ﴾ على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع، ويستمع حمل على اللفظ، وقد سبق التحقيق فيه، وقوله ﴿حَتَّى ﴾ للعطف في قول المفسرين، وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءاً من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه، كقول القائل : أكرمني الناس حتى الملك، وجاء الحاج حتى المشاة، وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى، ولا يشترط في العطف بالواو ذلك، فيجوز أن تقول في الواو : جاء الحاج وما علمت، ولا يجوز مثل ذلك في حتى، إذا علمت هذا فوجه التعلق ههنا هو أن قوله ﴿حَتَّى ا إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ﴾ يفيد معنى زائداً في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعاً بالغاً جيداً، لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم، فإن قلت فعلى هذا يكون هذا صفة مدح لهم، وهو ذكرهم في معرض الذم، نقول يتميز بما بعده، وهو أحد أمرين : إما كونهم بذلك مستهزئين، كالذكي يقول للبليد : أعد كلامك حتى أفهمه، ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع، وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غير مستفيد ولا مستعيد، وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون، ويناسب هذا الثاني قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ﴾ (الأعراف : ١٠١)، والأول : يؤكده قوله تعالى :﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ (البقرة : ١٤). والثاني : يؤكده قوله تعالى :﴿قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ (الحجرات : ١٤) وقوله ﴿ءَانِفًا ﴾ قال بعض المفسرين : معناه الساعة، ومنه الاستئناف وهو الابتداء، فعلى هذا فالأولى أن يقال يقولون ماذا قال آنفاً بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء، كما يقول المستعيد للمعيد : أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
ثم قال تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ﴾.
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
لما بيّن الله تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، والمنافق يستعيد، والمهتدي يفسر ويعيد، وفيه فائدتان إحداهما : ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين وثانيهما : قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة، فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى، يرد عليه ويقول ليس /كذلك، فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه، فذلك لعماء القلوب، لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفاعل للزيادة في قوله ﴿زَادَهُمْ﴾ ؟
نقول فيه وجوه الأول : المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ (محمد : ١٦) فإنه يدل على مسموع، والمقصود بيان التباين بين الفريقين، فكأنه قال : هم لم يفهموه، وهؤلاء فهموه والثاني : أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (محمد : ١٦) وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى، والمهتدين زاده هدىً والثالث : استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى، ووجهه أنه تعالى لما قال :﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم﴾ قال :﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ﴾ اتباعهم الهدى هدى، فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه.


الصفحة التالية
Icon