المسألة الثانية : ما معنى قوله ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ﴾ ؟
نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة، أما المنقولة فنقول : قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم، وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار، يعني بيّن لهم التقوى، وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا. وأما المستنبط فنقول : يحتمل أن يكون المراد به بيان حال المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بياناً لغاية الخلاف بين المنافق، فإنه استمع ولم يفهمه، وستعاد ولم يعلمه، والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره، ويدل عليه قوله تعالى :﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ ولم يقل اهتداء، والهدى مصدر من هدى، قال الله تعالى :﴿فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام : ٩٠) أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ﴾ معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان، وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي، وعلى هذا فقوله ﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله ﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ إشارة إلى العلم ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ﴾ إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه، وهو مستنبط من قوله تعالى :﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا ﴾ (الزمر : ١٧، ١٨) وقوله ﴿ والراسخون فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه ﴾ (آل عمران : ٧).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المعنى الثالث : يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره، وتحقيقه هو أنه لما قال :﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ أفاد أنهم ازداد علمهم، وقال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ (فاطر : ٢٨) فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم.
والمعنى الرابع : تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى :﴿كَفُورٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه ﴾ (لقمان : ٣٣) ويدل عليه قوله تعالى :﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً ﴾ (محمد : ١٨) كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه.
المعنى الخامس : آتاهم تقواهم، التقوى التي تليق بالمؤمن، وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم.
ثم قال تعالى :﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ ﴾ (الأحزاب : ٣٩) وكذلك قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ ﴾ (الأحزاب : ١) وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين، وهذا يحقق ذلك، من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان، المؤمنون والكافرون فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذلك واتقى الله لا غير، واتقى ذلك غير الله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
يعني الكافرون والمنافقون لا ينظرون إلا الساعة، وذلك لأن البراهين قد صحت والأمور قد اتضحت وهم لم يؤمنوا فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة وهو من قبيل بدل الاشتمال على تقدير لا ينظرون إلا الساعة إتيانها بغتة، وقرىء ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم﴾ على الشرط وجزاؤه لا ينفعهم ذكراهم، يدل عليه قوله تعالى :﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ﴾، وقد ذكرنا أن القيامة سميت بالساعة لساعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب.
وقوله ﴿فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : لبيان غاية عنادهم وتحقيقه هو أن الدلائل لما ظهرت ولم يؤمنوا لم يبق إلا إيمان اليأس وهو عند قيام الساعة لكن أشراطها بانت فكان ينبغي أن يؤمنوا ولم يؤمنوا فهم في لجة الفساد وغاية العناد ثانيهما : يكون لتسلية قلوب المؤمنين كأنه تعالى لما قال :﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ﴾ فهم منه تعذيبهم والساعة عند العوام مستبطأة فكأن قائلاً قال متى الساعة ؟
فقد جاء أشراطها كقوله تعالى :﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر : ١) والأشراط العلامات، قال المفسرون هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يقال معنى الأشراط البينات الموضحة لجواز الحشر، مثل خلق الإنسان ابتداء وخلق السموات والأرض، كما قال تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ (يس : ٨١) والأول هو التفسير.


الصفحة التالية
Icon