زيادة في التسلية يعني كيف تمنعك الدنيا من طلب الآخرة بالجهاد، وهي لا تفوتك لكونك منصوراً غالباً، وإن فاتتك فعملك غير موتر، فكيف وما يفوتك، فإن فات فائت ولم يعوض لا ينبغي لك أن تلتفت إليها لكونها لعباً ولهواً، وقد ذكرنا في اللعب واللهو مراراً أن اللعب /ما تشتغل به ولا يكون فيه ضرورة في الحال ولا منفعة في المآل، ثم إن استعمله الإنسان ولم يشتغله عن غيره، ولم يثنه عن أشغاله المهمة فهو لعب وإن شغله ودهشه عن مهماته فهو لهو، ولهذا يقال ملاهي لآلات الملاهي لأنها مشغلة عن الغير، ويقال لما دونه لعب كاللعب بالشطرنج والحمام، وقد ذكرنا ذلك غير مرة، وقوله ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ إعادة للوعد والإضافة للتعريف، أي الأجر الذي وعدكم بقوله ﴿أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ (يس : ١١) ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (هود : ١١) ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران : ١٧٢) وقوله ﴿وَلا يَسْاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : أن الجهاد لا بد له من إنفاق، فلو قال قائل أنا لا أنفق مالي، فيقال له الله لا يسئلكم ظمالكم في الجهات المعينة من الزكاة والغنيمة وأموال المصالح فيها تحتاجون إليه من المال لا تراعون بإخراجه وثانيها : الأموال لله وهي في أيديكم عارية وقد طلب منكم أو أجاز لكم في صرفها في جهة الجهاد فلا معنى لبخلكم بماله، وإلى هذا إشارة بقوله تعالى :﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (الحديد : ١٠) أي الكل لله وثالثها : لا يسألكم أموالكم كلها، وإنما يسألكم شيئاً يسيراً منها وهو ربع العشر، وهو قليل جداً لأن العشر هو الجزء الأقل إذ ليس دونه جزء وليس اسماً مفرداً، وأما الجزء من أحد عشر ومن إثنى عشر و(إلى) مائة جزء لما لم يكن ملتفتاً إليه لم يوضع له اسم مفرد.
ثم إن الله تعالى لم يوجب ذلك في رأس المال بل أوجب ذلك في الربح الذي هو من فضل الله وعطائه، وإن كان رأس المال أيضاً كذلك لكن هذا المعنى في الربح أظهر، ولما كان المال منه ما ينفق للتجارة فيه ومنه ما لا ينفق، وما أنفق منه للتجارة أحد قسميه وهو يحتمل أن تكون التجارة فيه رابحة، ويحتمل أن لا تكون رابحة فصار القسم الواحد قسمين فصار في التقدير كان الربح في ربعه فأوجب (ربع) عشر الذي فيه الربح وهو عشر فهو ربع العشر وهو الواجب، فعلم أن الله لا يسألكم أموالكم ولا الكثير منه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
الفاء في قوله ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بياناً لشح الأنفس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بيّن أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً وقوله ﴿تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم، كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
(يعني) قد طلبت منكم اليسير فبخلتم فكيف لو طلبت منكم الكل وقوله ﴿هَا ؤُلاءِ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله وثانيهما :﴿هَا ؤُلاءِ﴾ وحدها خبر ﴿أَنتُمْ﴾ كما يقال أنت هذا تحقيقاً للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدىء ﴿تَدْعُونَ﴾ وقوله ﴿تَدْعُونَ﴾ أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء ﴿فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ﴾، ثم بيّن أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه، ثم حقق ذلك بقوله ﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ﴾ غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله ﴿وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ ﴾ حتى لا تقولوا إنا أيضاً أغنياء عن القتال، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا، فإن الكافر إن يغز يغز، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده، لا سيما أباح الشارع للمضطر ذلك، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيراً وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
ثم قال تعالى :﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ بيان الترتيب من وجهين : أحدهما : أنه ذكره بياناً للاستغناء، كما قال تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (إبراهيم : ١٩) وقد ذكر أن هذا تقرير بعد التسليم، كأنه تعالى يقول : الله غني عن العالم بأسره فلا حاجة له إليكم. فإن كان ذاهب يذهب إلى أن ملكه بالعالم وجبروته يظهر به وعظمته بعباده، فنقول هب أن هذا الباطل حق لكنكم غير متعينين له، بل الله قادر على أن يخلق خلقاً غيركم يفتخرون بعبادته، وعالماً غير هذا يشهد بعظمته وكبريائه وثانيهما : أنه تعالى لما بيّن الأمور وأقام عليها البراهين وأوضحها بالأمثلة قال إن أطعتم فلكم أجوركم وزيادة وإن تتولوا لم يبق لكم إلا الإهلاك فإن ما من نبي أنذر قومه وأصروا على تكذيبه إلا وقد حق عليهم القول بالإهلاك وطهر الله الأرض منهم وأتى بقوم آخرين طاهرين، وقوله ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ فيه مسألة نحوية يتبين منها فوائد عزيزة وهي :/أن النحاة قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم، الجزم والرفع جميعاً، قال الله تعالى ههنا ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ بالجزم، وقال في موضع آخر ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾ (آل عمران : ١١١) بالرفع بإثبات النون وهو مع الجواز، ففيه تدقيق : وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين، كون من يأتي بهم مطيعين، وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون، فلم يكن للتعليق هناك وجه فرفع بالابتداء، وههنا جزم للتعليق.
وقوله ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ في الوصف ولا في الجنس وهو لائق الوجه الثاني : وفيه وجوه أحدها : قوم من العجم ثانيها : قوم من فارس روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا وسلمان إلى جنبه فقال :"هذا وقومه" ثم قال :"لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لناله رجال من فارس" وثالثها : قوم من الأنصار والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥


الصفحة التالية
Icon