المسألة الخامسة : قال الله تعالى :﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ ﴾ بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : الواو لا تقتضي الترتيب الثاني : تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة، فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة الثالث : وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة، وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات، والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع، وقوله تعالى :﴿وَكَانَ ذَالِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فيه وجهان أحدهما : مشهور وهو أن الإدخال والتكفير في الله فوز عظيم، يقال عندي هذا الأمر على هذا الوجه، أي في اعتقادي وثانيهما : أغرب منه وأقرب منه عقلاً، وهو أن يجعل عند الله كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول ذلك عند الله، أي بشرط أن يكون عند الله تعالى ويوصف أن يكون عند الله فوز عظيم حتى أن دخول الجنة لو لم يكن فيه قرب من الله بالعندية لما كان فوزاً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور أحدها : أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه، وهو كان يفشي أسراره، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله :"أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك، وإنما /يأتيه على أني صديقك، والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه، ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة، والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه، فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول ﴿الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ هذا الظن يحتمل وجوهاً أحدها : هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ﴾ (الفتح : ١٢) ثانيها : ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى :﴿إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ﴾ إلى أن قال :﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّا وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا﴾ (النجم : ٢٣ ـ ٢٨) ثالثها : ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال :﴿وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (فصلت : ٢٢) والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى، وأن العالم خلقه باطل، كما قال تعالى :﴿ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (ص : ٢٧) ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله ﴿ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ وفيه وجوه أحدها : ما اختاره المحققون من الأدباء، وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد، والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد، وسئلت عن رجل صدق أي صالح، فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد، فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد، وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري، وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد، يقال ساء مزاجه، وساء خلقه، وساء ظنه، كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء، بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى :﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ (الروم : ٤١) وقال :﴿سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (التوبة : ٩) هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٦٥
ثم قال تعالى :﴿عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ ﴾ أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه.
ثم قال تعالى :﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصاباً لكي يصير مثاباً، وقد يكون مصاباً على وجه التعذيب فقوله ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله ﴿وَلَعَنَهُمْ﴾ زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه، وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد/ فقال :﴿وَلَعَنَهُمْ﴾ لكون الغضب شديداً، ثم لما بيّن حالهم في الدنيا بيّن مآلهم في العقبى قال :﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَا وَسَآءَتْ مَصِيرًا﴾ وقوله ﴿سَآءَتْ﴾ إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان، وقوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (الفتح : ٤) قد تقدم تفسيره، وبقي فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon