﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ وسنذكر معناه، وأما اللفظية فثلاث لطائف الأولى : قال في حق الكافر (جعل) وقال في حق المؤمن (أنزل) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها الثانية : قال الحمية ثم أضافها بقوله ﴿حَمِيَّةَ الْجَـاهِلِيَّةِ﴾ لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحاً، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية. وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار، فقال ﴿سَكِينَتَه ﴾ اكتفاه بحسن الإضافة الثالثة : قوله ﴿فَأَنزَلَ﴾ بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن ذلك كالمقابلة تقول أكرمني فأكرمته للمجازاة والمقابلة ولو قلت أكرمني وأكرمكته لا ينبىء عن ذلك، وحينئذ يكون فيه لطيفة : وهي أن عند اشتداد غضب أحد العدوين فالعدو الآخر إما أن يكون ضعيفاً أو قوياً، فإن كان ضعيفاً ينهزم وينقهر/ وإن كان قوياً فيورث غضبه فيه غضباً، وهذا سبب قيام الفتن والقتال فقال في نفس الحركة عند حركتهم ما أقدمنا وما انهزمنا، وقوله تعالى :﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ﴾ بالفاء يدل تعلق الإنزال بالفاء على ترتيبه على شيء، نقول فيه وجهان : أحدهما : ما ذكرنا من أن إذ ظرف كأنه قال أحسن الله ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وقوله ﴿فَأَنزَلَ﴾ تفسير لذلك الإحسان كما يقال أكرمني فأعطاني لتفسير الإكرام وثانيهما : أن تكون الفاء للدلالة على أن تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة، تقول أكرمني فأثنيت عليه، ويجوز أن يكونا فعلين واقعين من غير مقابلة، كما تقول جاءني زيد وخرج عمرو، وهو هنا كذلك لأنهم لما جعلوا في قلوبهم الحمية فالمسلمون على مجرى العادة لو نظرت إليهم لزم أن يوجد منهم أحد الأمرين : إما إقدام، وإما انهزام لأن أحد العدوين إذا اشتد غضبه فالعدو الآخر إن كان مثله في القوة يغضب أيضاً وهذا يثير الفتن، وإن كان أضعف منه ينهزم أو ينقاد له فالله تعالى أنزل في مقابلة حمية الكافرين على المؤمنين سكينته حتى لم يغضبوا ولم ينهزموا بل يصبروا، وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى، قوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
﴿عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنه هو الذي أجاب الكافرين إلى الصلح، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر، وأبوا أن /لا يكتبوا محمداً رسول الله وبسم الله، فلما سكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سكن المؤمنون، وقوله تعالى :﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إله إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك، وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه، وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول ﴿وَأَلْزَمَهُمْ﴾ يحتمل أن يكون عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين جميعاً يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى، ويحتمل أن يكون عائداً إلى المؤمنين فحسب، فإن قلنا إنه عائد إليهما جميعاً نقول هو الأمر بالتقوى فإن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلّم :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ﴾ (الأحزاب : ١) وقال للمؤمنين ﴿مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ (آل عمران : ١٠٢) والأمر بتقوى الله حتى تذهله تقواه عن الالتفات إلى ما سوى الله، كما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم ﴿اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ﴾ وقال تعالى :﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه ﴾ (الأحزاب : ٧٧) ثم بيّن له حال من صدقه بقوله ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ ﴾ (الأحزاب : ٣٩) أما في حق المؤمنين فقال :﴿مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ وقال :﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى﴾ (البقرة : ١٥٠) وإن قلنا بأنه راجع إلى المؤمنين فهو قوله تعالى :﴿وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ (الحشر : ٧) ألا ترى إلى قوله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ (
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon