ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ﴾ خطاباً مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان، وقال أيضاً بأن قوله تعالى :﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة، ودوام النبي صلى الله عليه وسلّم على العمل باستصوابهم، ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها، وههنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولاً بقوله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ هم الذين أرادوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم يعمل بمرادهم، والمخاطبين بقوله ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ﴾ هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي صلى الله عليه وسلّم، هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن، والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال :﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ (الحجرات : ٦) أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه ﴾ أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه فيكم مبين مرشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة : هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه، وذلك لأن المراد منه أنه /لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه، أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح، ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد، فكذلك ههنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف، والذي يدل على أن المراد من قوله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) وقوله تعالى :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢) فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ﴾ إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله ﴿فَتَبَيَّنُوا ﴾ وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا/ فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان، فكأنه تعالى قال : توقفوا فيما يكون مشكوكاً فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله، وعلى قولنا المخاطب بقوله ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ﴾ هو المخاطب بقوله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ إذا علمت معنى الآية جملة، فاسمعه مفصلاً ولنفصله في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل إذا كان المراد بقوله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه ﴾ الرجوع إليه والاعتماد على قوله، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلّم ؟
وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز ؟
نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقاً عليه، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده، فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ، وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي، بخلاف ما لو قال راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق، وبين الكلامين بون بعيد، فكذلك قوله تعالى :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه ﴾ يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح.


الصفحة التالية
Icon