جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
المسألة الأولى : قوله ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع /على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم، والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة : وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال، لأن المرأة في نفسها ضعيفة، فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر، قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه" وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها (إليه)، وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر.
المسألة الثانية : قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر ﴿عَسَى ا أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ كسراً له وبغضاً لنكره، وقال في المرتبة الثانية ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة وفي الأول جعل المسخور منه خيراً/ وفي الثاني جعل المسخور منه مثلاً، وفي قوله ﴿عَسَى ا أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال وجعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال :﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْه ﴾ (الأعراف : ١٢) فصار هو خيراً، ويمكن أن يقال المراد من قوله ﴿أَن يَكُونُوا ﴾ يصيروا فإن من استحقر إنساناً لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير، ويضعف هو ويقوى الضعيف.
المسألة الثالثة : قال تعالى :﴿قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ ولم يقل نفس من نفس، وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعاً، فذكرهم بلفظ القوم منعاً لهم عما يفعلونه.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ فيه وجهان أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفساً فكأنما عاب نفسه وثانيهما : هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملاً للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (النساء : ٢٩) أي إنكم إذا قتلتم نفساً قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجهاً آخر ثالثاً وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه، وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
المسألة الخامسة : إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته، لكن قوله تعالى :﴿وَلا تَلْمِزُوا ﴾ قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان، نقول ليس كذلك بل العكس أولى، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس، لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم، والأول : يدل على القرب، والثاني : على البعد، فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد /قيل بمعنى واحد.
المسألة السادسة : قال تعالى :﴿وَلا تَنَابَزُوا ﴾ ولم يقل لا تنبزوا، وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يلمزه به، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز.
وقوله تعالى :﴿بِئْسَ ا سْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ ﴾.
قيل فيه إن المراد ﴿بِئْسَ﴾ أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر، ويحتمل وجهاً أحسن من هذا : وهو أن يقال هذا تمام للزجر، كأنه تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ (الأنعام : ٨٢) ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.


الصفحة التالية
Icon