قال تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالماً فاسقاً وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما : أن يقال قوله تعالى :﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ﴾ ﴿وَلا تَلْمِزُوا ﴾ ﴿وَلا تَنَابَزُوا ﴾ منع لهم عن ذلك في المستقبل، وقوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديداً في الزجر، والأصل في قوله تعالى :﴿وَلا تَنَابَزُوا ﴾ لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ﴾ (البقرة : ٦) والحذف ههنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة، ولهذا وجب الإدغام في قولنا : مد، ولم يجب في قولنا امدد، و(في) قولنا : مر، (دون) قوله : أمر ربنا.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً، وقوله ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾ إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ظنوا بالمؤمن خيراً" وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين، فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا﴾ وقوله تعالى :﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ إتماماً لما سبق لأنه تعالى لما قال :﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلاناً يعني أعلمه يقيناً وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى : ولا تتبعوا الظن، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٩١


الصفحة التالية
Icon