المسألة الأولى : قال في خلق السماء والأرض ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ﴾ (ق : ٨) وفي الثمار قال :﴿رِّزْقًا﴾ والثمار أيضاً فيها تبصرة، وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة، فما الحكمة في اختيار الأمرين ؟
نقول فيه وجوه أحدها : أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة والثاني البقاء بعد الإعادة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم، وأنكروا ذلك، فأما الأول فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر، قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى، فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ﴾ حيث ذكر ذلك بعد الآيتين، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ثانيها : أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم، حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا، ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى، لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله، وفيها غير ذلك من المنافع، والثمار وإن لم تكن (ما) كان العيش، كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ثالثها : قوله ﴿رِّزْقًا﴾ إشارة إلى كونه منعماً لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة (للتكذيب) بالمنعم وهو أقبح ما يكون.
المسألة الثانية : قال :﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ (ق : ٨) فقيد العبد بكونه منيباً وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال :﴿رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ ﴾ مطلقاً لأن الرزق حصل لكل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
المسألة الثالثة : ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضاً وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أموراً ثلاثة، وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة، فهل هي كذلك في هذه الآية ؟
نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة، وهي التي يبقى أصلها سنين، ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل، والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجاً عنه أصلاً كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة : ابتداء وهو المد، ووسط وهو النبات بالجبال الراسية، وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف.
ثم قال تعالى :﴿وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾ عطفاً على ﴿أَنابَتْنَا فِيهَا﴾ (ق : ٩) وفيه بحثان :
الأول : إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله ﴿وَأَحْيَيْنَا بِه ﴾ إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء، ويدل عليه قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ الْخُرُوجُ﴾ فإن قيل كيف يصح قولك استدلالاً/ وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك ﴿وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾.
وقال :﴿كَذَالِكَ الْخُرُوجُ﴾ فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء، فينبغي أن يبين أولاً أنه يحيي الموتى، ثم يبين أنه يبقيهم، نقول لما كان الاستدلال بالسموات والأرض على الإعادة كافياً بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء، ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء، وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال :﴿فَأَنابَتْنَا بِه جَنَّـاتٍ﴾ ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال :﴿وَأَحْيَيْنَا بِه ﴾ وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله ﴿وَأَحْيَيْنَا بِه ﴾ ينبغي أن يكون مغايراً لقوله ﴿فَأَنابَتْنَا بِه ﴾ بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء، وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف، تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة، ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات، وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان، فكذلك هذا الإحياء، فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر، ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر، نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر.