جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
الثاني : في قوله ﴿بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾ نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها، لأن الميت تخفيف للميت، والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ (الأعراف : ٥٦) فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول ؟
قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظراً إلى المعنى ونظراً إلى اللفظ، فأما المعنى فظاهر، وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له، إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلاً جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير، ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة /الأدنى، والتحقيق فيه أن فعيلاً وضع لمعنى لفظي، والمفعول وضع لمعنى حقيقي فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني، واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول، والمفعول كالموضوع للمعنى، ولما كان تغير اللفظ تابعاً لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى، ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر، فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله ﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا﴾ (يس : ٣٣) حيث أثبت التاء هناك ؟
نقول الأرض أراد بها الوصف فقال :﴿الارْضُ الْمَيْتَةُ﴾ لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة، لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة، وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء، وتحقيق هذا قوله ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ (سبأ : ١٥) حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل، ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز.
قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ الْخُرُوجُ﴾ أي كالإحياء ﴿الْخُرُوجُ﴾ فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره ﴿وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾ فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات، وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله ﴿ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ﴾ (ق : ٣) لأنه تعالى بيّن لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول، كذلك الإخراج، ولما قال :﴿كَذَالِكَ الْخُرُوجُ﴾ فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال :﴿كَذَالِكَ الْخُرُوجُ﴾ نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر، وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت الخروج وفيهما مبالغة تنبيهاً على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان، ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج، والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزماً، وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازاً والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم، إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزماً فبالغوا وأنكروا الأمر جميعاً، لأن نفي السبب نفي المسبب، فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعاً بنفي الإخراج.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم ووبالهم وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم، وتفسيره ظاهر وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل، كذبوا وصبروا فأهلك الله /مكذبيهم ونصرهم ﴿وَأَصْحَـابُ الرَّسِّ﴾ فيهم وجوه من المفسرين من قال هم قوم شعيب ومنهم من قال هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم عيسى عليه السلام، ومنهم من قال هم أصحاب الأخدود، والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس إذا حفر بئراً وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك، وقال ههنا ﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ وقال :﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط، ونوح كان مرسلاً إلى خلق عظيم، وقال :﴿فِرْعَوْنُ﴾ ولم يقل قوم فرعون، وقال :﴿وَقَوْمُ تُّبَّعٍ ﴾ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره، وتبع كان معتمداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون، ولم يقل إلى قوم فرعون.
وقوله تعالى :﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾.
يحتمل وجهين أحدهما : أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل واللام حينئذ لتعريف العهد وثانيهما : وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل واللام حينئذ لتعريف الجنس وهو على وجهين أحدهما : أن المكذب للرسول مكذب لكل رسول وثانيهما : وهو الأصح أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية، وقوله ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.


الصفحة التالية
Icon