فيه وجهان أحدهما : ذو ريب، وهذا على قولنا : الكفار كثير الكفران، والمناع مانع الزكاة، كأنه يقول : لا يعطي الزكاة لأنه في ريب من الآخرة، والثواب فيقول : لا أقرب مالاً من غير عوض وثانيهما :﴿مُّرِيبٍ﴾ يوقع الغير في الريب بإلقاء الشبهة، والإرابة جاءت بالمعنيين جميعاً، وفي الآية ترتيب آخر غير ما ذكرناه، وهو أن يقال : هذا بيان أحوال الكفر بالنسبة إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى اليوم الآخر، فقوله ﴿كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ إشارة إلى حاله مع الله يكفر بعد ويعاند آياته، وقوله ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ﴾ إشارة إلى حاله مع رسول الله، فيمنع الناس من اتباعه، ومن الإنفاق على من عنده، ويتعدى بالإيذاء وكثرة الهذاء، وقوله ﴿مُّرِيبٍ﴾ إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يريب فيه ويرتاب، ولا يظن أن الساعة قائمة، فإن قيل قوله تعالى :﴿أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾ إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاء خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها، والكفر كاف في إيراث الإلقاء في جهنم والأمر به، فنقول قوله تعالى :﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ ليس المراد منه الوصف المميز، كما يقال : أعط العالم الزاهد، بل المراد الوصف المبين بكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح، أو على سبيل الذم، كما يقال : هذا حاتم السخي، فقوله ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ يفيد أن الكفار عنيد ومناع، فالكفار كافر، لأن آيات الوحدانية ظاهرة، ونعم الله تعالى على عبده وافرة، وعنيد ومناع للخير، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يمنع، ومريب لأنه شاك في الحشر، فكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٣٩
فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه بدل من قوله ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (ق : ٢٤) ثانيها : أنه عطف على ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ ثالثها : أن يكون عطفاً على قوله ﴿أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ﴾ كأنه قال :﴿أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي والذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه بعد ما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٣٩
١٤٣
وهو جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا ﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ﴾ (ق : ٢٨) لأن الاختصام يستدعي كلاماً من الجانبين وحينئذ هذا، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص ﴿قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ ﴾ (ص : ٦٠) وقوله تعالى :﴿قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ﴾ إلى أن قال :﴿إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ (ص : ٦١، ٦٤) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزمخشري : المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد، واستدل عليه بهذا. وقال غيره، المراد الملك لا الشيطان، وهذا يصلح دليلاً لمن قال ذلك، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان، فيكون قوله ﴿هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ﴾ (ق : ٢٣) معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي، فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه، وعلى هذا فيكون قوله ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه ﴾ مناقضاً لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب : عنه من وجهين أحدهما : أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما : أن تكون الإشارة إلى حالين : ففي الحالة /الأولى إنما فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام من بني آدم، وتصحيحاً لما قال :﴿فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٢) ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب، كما قال تعالى :﴿فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ (ص : ٨٤، ٨٥) فيقول ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه ﴾ فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب.
المسألة الثانية : قال ههنا ﴿قَالَ قَرِينُه ﴾ من غير واو، وقال في الآية الأولى ﴿وَقَالَ قَرِينُه ﴾ (ق : ٢٣) بالواو العاطفة، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق، ويقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، والفاء في قوله ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ﴾ (ق : ٢٦) لا يناسب قوله تعالى :﴿قَالَ قَرِينُه رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه ﴾ مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٣