المسألة الثالثة : أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس، ولم يقسم بجموع السلامة المذكورة في سورة أصلاً، فلم يقل : والصالحين من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك، مع أن المذكر أشرف، وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل، وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه، وحصول الاعتراف منهم به، ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٢
بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح، وعذاب / الصالح، ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل، فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم، والله أعلم.
المسألة الرابعة : في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية، أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال :﴿وَالصَّـا فَّـاتِ﴾ (الصافات : ١) وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات، فقال :﴿وَالذَّارِيَـاتِ﴾ وقال :﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ (المرسلات : ١) وقال :﴿وَالنَّـازِعَـاتِ﴾ (النازعات : ١) ويؤيده قوله تعالى :﴿وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا * فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا﴾ (النازعات : ٣، ٤) وقال :﴿وَالْعَـادِيَـاتِ﴾ (العاديات : ١) وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة، قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى.
المسألة الخامسة : في الذاريات أقوال. الأول : هي الرياح تذور التراب وغيره، كما قال تعالى :﴿تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ ﴾ (الكهف : ٤٥). الثاني : هي الكواكب من ذرا يذرو إذا أسرع. الثالث : هي الملائكة. الرابع : رب الذاريات، والأول أصح.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٢
المسألة السادسة : الأمور الأربعة جاز أن تكون أموراً متباينة، وجاز أن تكون أمراً له أربع اعتبارات. الأول : هي ما روي عن علي عليه السلام، أن الذاريات هي الرياح والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق. والثاني : وهو الأقرب أن هذه صفات أربع للرياح، فالذاريات هي الرياح التي تنشىء السحاب أولاً، والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، وهي أوقار أثقال من جبال، والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها، والمقسمات هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار/ ويحتمل أن يقال هذه أمور أربعة مذكورة في مقابلة أمور أربعة بها تتم الإعادة، وذلك لأن الأجزاء التي تفرقت بعضها في تخوم الأرضين، وبعضها في قعور البحور، وبعضها في جو الهواء، وهي الأجزاء اللطيفة البخارية التي تنفصل عن الأبدان، فقوله تعالى :﴿وَالذَّارِيَـاتِ﴾ يعني الجامع للذاريات من الأرض، على أن الذارية هي التي تذرو التراب عن وجه الأرض، وقوله تعالى :﴿فَالْحَـامِلَـاتِ وِقْرًا﴾ هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً، بل تنقله من موضع، وترميه في موضع بخلاف السحاب، فإنه يحمله وينقله في الجو حملاً لا يقع منه شيء، وقوله :﴿فَالْجَـارِيَـاتِ يُسْرًا﴾ إشارة إلى الجامع من الماء، فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر، فإذا تبين أن الجمع من الأرض، وجو الهواء ووسط البحار ممكن، وإذا اجتمع يبقى نفخ الروح لكن الروح من أمر الله، كما قال تعالى :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ (الإسراء : ٨٥) فقال :﴿فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا﴾ الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله، وإنما ذكرهم بالمقسمات، لأن الإنسان في الأجزاء الجسمية غير مخالف تخالفاً بيناً، فإن لكل أحد رأساً ورجلاً، والناس متقاربة في الأعداد والأقدار، لكن التفاوت الكثير في / النفوس، فإن الشريفة والخسيسة بينهما غاية الخلاف، وتلك القسمة المتفاوتة تنقسم بمقسم مختار ومأمور مختار فقال :﴿فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا﴾.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٢