البحث الثاني : في المقسم عليه وهو قوله تعالى :﴿إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ وفي تفسيره أقوال مختلفة كلها محكمة. الأول : إنكم لفي قول مختلف، في حق محمد صلى الله عليه وسلّم، تارة يقولون إنه أمين وأخرى إنه كاذب، وتارة تنسبونه إلى الجنون، وتارة تقولون إنه كاهن وشاعر وساحر، وهذا محتمل لكنه ضعيف إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤكد بيمين. الثاني :﴿إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ أي غير ثابتين على أمر ومن لا يثبت على قول لا يكون متيقناً في اعتقاده فيكون كأنه قال تعالى، والسماء إنكم غير جازمين في اعتقادكم وإنما تظهرون الجزم لشدة عنادكم وعلى هذا القول فيه فائدة وهي أنهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم إنك تعلم أنك غير صادق في قولك، وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل قال :﴿وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا﴾ أي أنك صادق ولست معانداً، ثم قال تعالى : بل أنتم والله جازمون بأني صادق فعكس الأمر عليهم. الثالث : إنك لفي قول مختلف، أي متناقض، أما في الحشر فلأنكم تقولون لا حشر ولا حياة بعد الموت ثم تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة، فإذا كان لا حياة بعد الموت ولا شعور للميت، فماذا يصيب آباءكم إذا خالفتموهم ؟
وإنما يصح هذا ممن يقولون بأن بعد الموت عذاباً فلو / علمنا شيئاً يكرهه الميت يبدي فلا معنى لقولكم إنا لا ننسب آباءنا بعد موتهم إلى الضلال، وكيف وأنتم تربطون الركائب على قبور الأكابر، وأما في التوحيد فتقولون خالق السموات والأرض هو الله تعالى لا غيره ثم تقولون هو إله الآلهة وترجعون إلى الشرك، وأما في قول النبي صلى الله عليه وسلّم فتقولون إنه مجنون ثم تقولون له إنك تغلبنا بقوة جدلك، والمجنون كيف يقدر على الكلام المنتظم المعجز، إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٣
١٦٤
وفيه وجوه. أحدها : أنه مدح للمؤمنين، أي يؤفك عن القول المختلف ويصرف من صرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي. وثانيها : أنه ذم معناه يؤفك عن الرسول. ثالثها : يؤفك عن القول بالحشر. رابعها : يؤفك عن القرآن، وقرىء يؤفن عنه من أفن، أي يحرم، وقرىء يؤفك عنه من أفك، أي كذب. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٤
١٦٤
وهذا يدل على أن المراد من قوله :﴿لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ (الذاريات : ٨) أنهم غير ثابتين على أمر وغير جازمين بل هم يظنون ويخرصون، ومعناه لعن الخراصون دعاء عليهم بمكروه. ثم وصفهم فقال :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٤
١٦٤
وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية.
أما اللفظية : فقوله :﴿سَاهُونَ﴾ يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، والمبتدأ هو قوله :﴿هُمْ﴾ وتقديره هم كائنون في غمرة ساهون، كما يقال زيد جاهل جائز لا على قصد وصف الجاهل بالجائز، بل الإخبار بالوصفين عن زيد، ويحتمل أن يكون ﴿سَاهُونَ﴾ خبراً و﴿فِى غَمْرَةٍ﴾ ظرف له كما يقال : زيد في بيته قاعد يكون الخبر هو القاعد لا غير وفي بيته لبيان ظرف القعود كذلك ﴿فِى غَمْرَةٍ﴾ لبيان ظرف السهو الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة، ولولاها لما جاز وصف المعرفة بالجملة.
وأما المعنوية : فهي أن وصف الخراص بالسهو والانهماك في الباطل، يحقق ذلك كون الخراص صفة ذم، وذلك لأن ما لا سبيل إليه إلا الظن إذا خرص الخارص وأطلق عليه الخراص لا يكون ذلك مفيد نقص، كما يقال في خراص الفواكه والعساكر وغير ذلك، وأما الخرص في محل المعرفة واليقين فهو ذم فقال : قتل الخراصون الذين هم جاهلون ساهلون لا الذين تعين طريقهم في التخمين والحزر وقوله تعالى :﴿سَاهُونَ﴾ بعد قوله :﴿فِى غَمْرَةٍ﴾ يفيد أنهم وقعوا في جهل وباطل ونسوا أنفسهم يه فلم يرجعوا عنه. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٤
١٦٥
فإن قيل : الزمان يجعل ظرف الأفعال ولا يمكن / أن يكون الزمان ظرفاً لظرف آخر، وههنا جعل أيان ظرف اليوم فقال :﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ ويقال متى يقدم زيد، فيقال : يوم الجمعة ولا يقال : متى يوم الجمعة، فالجواب : التقدير متى يكون يوم الجمعة وأيان يكون يوم الدين، وأيان من المركبات ركب من أي التي يقع بها الاستفهان وآن التي هي الزمان أو من أي وأوان فكأنه قال أي أوان فلما ركب بني وهذا منهم جواب لقوله :﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ فكأنهم قالوا أيان يقع استهزاء وترك المسؤول في قوله :﴿يَسْـاَلُونَ﴾ حيث لم يقل يسألون من، يدل على أن غرضهم ليس بالجواب وإنما يسألون استهزاء. وقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٥
١٦٥


الصفحة التالية
Icon