يحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون جواباً عن قولهم ﴿أَيَّانَ﴾ يقع وحينئذ كما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لحصول العلم كذلك لم يجبهم جواب مجيب معلم مبين حيث قال :﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ وجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأول، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فإذا قال قائل متى يقدم زيد فلو قال المجيب يوم يقدم رفيقه ولا يعلم يوم قدوم الرفيق، لا يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة جواب، ولا يكون جواباً كما أن القائل إذا قال كم تعد عداتي تخلفها إلى متى هذا الإخلاف فيغضب ويقول إلى أشأم يوم عليك، الكلامان في صورة سؤال وجواب ولا الأول يريد به السؤال، ولا الثاني يريد به الجواب، فكذلك ههنا قال :﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ مقابلة استهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان. والثاني : أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه. في قوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٥
١٦٦
فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار، نقول الإضمار لا بد منه لأن قوله :﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ غير متصل بما قبله إلا بإضمار، يقال : ويفتنون قيل معناه : يحرقون، والأولى أن يقال معناه يعرضون على النار عرض المجرب الذهب على النار كلمة على تناسب ذلك، ولو كان المراد يحرقون لكان بالنار أو في النار أليق لأن الفتنة هي التجربة، وأما ما يقال من اختبره ومن أنه تجربة الحجارة فعنى بذلك المعنى مصدر الفتن، وههنا يقال :﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ والفتنة الامتحان، فإن قيل : فإذا جعلت ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ مقولاً لهم ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ فما قوله :﴿هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ؟
قلنا : يحتمل أن يكون المراد كنتم تستعجلون بصريح القول كما في قوله تعالى حكاية عنهم :﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ (ص : ١٦) وقوله :﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ (الأعراف : ٧٠) إلى غير ذلك يدله عليه ههنا قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ (الذاريات : ١٢) فإنه نوع استعجال، ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو الإصرار على العنار وإظهار الفساد فإنه يعجل العقوبة. / ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٦
١٦٨
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك، وأعلاها أن يتقي ما سوى الله، وأدنى درجات المتقي الجنة، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها.
المسألة الثانية : الجنة تارة وحدها كما قال تعالى :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ (الرعد : ٣٥) وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ﴾ وتارة ثناها فقال تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن : ٤٦) فما الحكمة فيه ؟
نقول : أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة، وكذلك عند الشراء حيث قال :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ (التوبة : ١١١) وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود. الثالثة : قوله تعالى :﴿وَعُيُونٍ﴾ يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات، نقول معناه في خلال العيون، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى :﴿فِي جَنَّـاتِ﴾ ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار، وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير، مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٦٨
١٦٩
وقوله تعالى :﴿ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ فيه مسائل ولطائف، أما المسائل :


الصفحة التالية
Icon