وقوله تعالى :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ﴾ فيه وجوه. أحدها : في السحاب المطر. ثانيها :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ﴾ مكتوب. ثالثها : تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت، وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن وذلك لأن الإنسان له أمور يحتاج إليها لا بد من سبقها حتى يوجد هو في نفسه وأمور تقارنه في الوجود وأمور تلحقه وتوجد بعده ليبقى بها، فالأرض هي المكان وإليه يحتاج الإنسان ولا بد من سبقها فقال :﴿وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ﴾ ثم في نفس الإنسان أمور من الأجسام والأعراض فقال :﴿وَفِى أَنفُسِكُمْ ﴾ ثم بقاؤه بالرزق فقال :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ﴾ ولولا السماء لما كان للناس البقاء.
وقوله تعالى :﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ فيه وجوه. أحدها : الجنة الموعود بها لأنها في السماء. ثانيها : هو من الإيعاد لأن البناء للمفعول من أوعد يوعد أي وما توعدون إما من الجنة والنار في قوله تعالى :﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ﴾ (الذاريات : ١٣) وقوله :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ﴾ (الذاريات : ١٥) فيكون إيعاداً عاماً، وأما من العذاب وحينئذ يكون الخطاب مع الكفار فيكون كأنه تعالى قال : وفي الأرض آيات للموقنين كافية، وأما أنتم أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات هي أظهر الآيات وتكفرون لها لحطام الدنيا وحب الرياسة، وفي السماء الأرزاق، فلو نظرتم وتأملتم حق التأمل، لما تركتم الحق لأجل الرزق، فإنه واصل بكل طريق ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٧٤
١٧٦
وفي المقسم عليه وجوه. / أحدها :﴿مَّا تُوعَدُونَ﴾ أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ (الذاريات : ٥) وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه ﴿مَّا تُوعَدُونَ﴾ إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي. ثانيها : الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى :﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ (الذاريات : ٩) دليل هذه وعلى هذا فقوله :﴿مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسندكره. ثالثها : أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى :﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ (الذاريات : ٦). رابعها : أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله :﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ (الذاريات : ١٢) يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى :﴿ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾ (النبأ : ٣٩). خامسها : أنه راجع إلى القول الذي يقال :﴿هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (الذاريات : ١٤) وفي التفسير مباحث :
الأول : الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم ؟
نقول فيه وجهان. أحدهما : الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول : إن ما توعدون لحق بالبرهان المبين، ثم بالقسم واليمين. ثانيهما : القسم المتقدم كأنه تعالى يقول :﴿وَالذَّارِيَـاتِ﴾ ثم ﴿فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو، فقوله :﴿وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا * فَالْحَـامِلَـاتِ وِقْرًا﴾ (الذاريات : ١، ٢) عطف من غير إعادة حرف القسم، وقوله :﴿فَوَرَبِّ السَّمَآءِ﴾ مع إعادة حرفه، والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين، ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله :﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ (الذاريات : ١٣) وقوله :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ﴾ (الذاريات : ١٥) وفيه فائدة، وهو أن الفاء تكون تنبيهاً على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين، فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق، كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين، ويشير إلى ثبوته من غير يمين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٧٦
البحث الثاني : أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله :﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ (الذاريات : ٧) ولم يقسم بربها، وههنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولاً بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى، ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك، والله لا يكفر وإذا قال : والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد، وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب، أو باللفظ الظاهر في أمر القلب، أو بالفعل الظاهر، وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله، والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيداً للترتيب في الوضوء وغيره.


الصفحة التالية
Icon