المسألة الرابعة : هذه الحكاية بعينها هي المحكية في هود، وهناك قالوا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ﴾ (هود : ٧٠) بعد ما زال عنه الروع وبشروه، وهنا قالوا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ﴾ بعدما سألهم عن الخطب، وأيضاً قالوا هناك :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ (هود : ٧٠) وقالوا ههنا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ والحكاية من قولهم، فإن لم يقولوا ذلك ورد السؤال أيضاً، فنقول إذا قال قائل حاكياً عن زيد : قال زيد عمرو خرج، ثم يقول مرة أخرى : قال زيد إن بكراً خرج، فإما أن يكون صدر من زيد قولان، وإما أن لا يكون حاكياً مما قاله زيد، والجواب عن الأول : هو أنه لما خاف جاز أنهم ما قالوا له ﴿لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ فلما قال لهم ماذا تفعلون بهم، كان لهم أن يقولوا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ لنهلكهم، كما يقول القائل : خرجت من البيت، فيقال : لماذا خرجت ؟
فيقول : خرجت لأتجر، لكن ههنا فائدة معنوية، وهي أنهم إنما قالوا في جواب ما خطبكم نهلكهم ؟
بأمر الله، لتعلم براءتهم عن إيلام البريء، وإهمال الرديء فأعادوا لفظ الإرسال، وأما عن الثاني : نقول الحكاية قد تكون حكاية اللفظ، كما تقول : قال زيد بعمرو مررت، فيحكي لفظه المحكي، وقد يكون حكاية لكلامه بمعناه تقول : زيد قال عمرو خرج، ولك أن تبدل مرة أخرى في غير تلك الحكاية بلفظة أخرى، فتقول لما قال زيد بكر خرج، قلت كيت وكيت، كذلك ههنا القرآن لفظ معجز، وما صدر ممن تقدم نبينا عليه السلام سوا كان منهم، وسواء كان منزلاً عليهم لم يكن لفظه معجزاً، فيلزم أن لا تكون هذه الحكايات بتلك الألفاظ، فكأنهم قالوا له :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ وقالوا :/ ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ وله أن يقول، إنا أرسلنا إلى قوم من آمن بك، لأنه لا يحكي لفظهم حتى يكون ذلك واحداً، بل يحكي كلامهم بمعناه وله عبارات كثيرة. ألا ترى أنه تعالى لما حكى لفظهم في السلام على أحد الوجوه في التفسير، قال في الموضعين : سلاماً وسلام ثم بيّن ما لأجله أرسلوا بقوله :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨١
١٨١
وقد فسرنا ذلك في العنكبوت، وقلنا : إن ذلك دليل على وجوب الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أي حاجة إلى قوم من الملائكة، وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه ؟
نقول الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير، ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير، إظهاراً لنفاذ أمره، فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة، كان أظهر في القدرة وحيث أمر آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر وفيه فائدة أخرى، وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم، ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره، يكون ذلك تعظيماً منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم، لكن الله تعالى أعان لوطاً بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف، وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذاً منه في تفسير قوله تعالى :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (يس : ٢٨).
المسألة الثانية : ما الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها من طين ؟
نقول : لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله :﴿مِّن طِينٍ﴾ يدفع ذلك التوهم، واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة، قالوا : وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد، ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي، فيصير طيناً رطباً، والرطب إذا نزل وتفرق واستدار، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلىء الكبار، ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو، جعلته حجارة كالآجر المطبوخ، فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به، ولهذا قال :﴿مِّن طِينٍ﴾ لأن ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف، ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى مما قاله ذلك القائل، فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث، فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار، لكن العقل لا طريق له إلى الجزم / بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل، والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها، لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار.


الصفحة التالية
Icon