جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨١
١٨١
فيه وجوه. أحدها : مكتوب على كل واحد اسم واحد يقتل به. ثانيها : أنها خلقت باسمهم ولتعذيبهم بخلاف سائر الأحجار فإنها مخلوقة للانتفاع في الأبنية وغيرها. ثالثها : مرسلة للمجرمين لأن الإرسال يقال في السوائم يقال أرسلها لترعى فيجوز أن يقول سومها بمعنى أرسلها وبهذا يفسر قوله تعالى :﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ (آل عمران : ١٤) إشارة إلى الاستغناء عنها وأنها ليست للركوب ليكون أدل على الغنى، كما قال :﴿وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ﴾ (آل عمران : ١٤) وقوله تعالى :﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ إشارة إلى خلاف ما يقول الطبيعيون إن الحجارة إذا أصابت واحداً من الناس فذلك نوع من الاتفاق فإنها تنزل بطبعها يتفق شخص لها فتصيبه فقوله :﴿مُّسَوَّمَةً﴾ أي في أول ما خلق وأرسل إذا علم هذا فإنما كان ذلك على قصد إهلاك المسرفين، فإن قيل : إذا كانت الحجارة مسومة للمسرفين فكيف قالوا :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ﴾ (الذاريات : ٣٢، ٣٣) مع أن المسرف غير المجرم في اللغة ؟
نقول : المجرم هو الآتي بالذنب العظيم لأن الجرم فيه دلالة على العظم ومنه جرم الشيء لعظمة مقداره، والمسرف هو الآتي بالكبيرة، ومن أسرف ولو في الصغائر يصير مجرماً لأن الصغير إلى الصغير إذا انضم صار كبيراً، ومن أجرم فقد أسرف لأنه أتى بالكبيرة ولو دفعة واحدة فالوصفان اجتمعا فيهم. لكن فيه لطيفة معنوية، وهي أن الله تعالى سومها للمسرف المصر الذي لا يترك الجرم والعلم بالأمور المستقبلة عند الله تعالى، يعلم أنهم مسرفون فأمر الملائكة بإرسالها عليهم، وأما الملائكة فعلمهم تعلق بالحاضر وهم كانوا مجرمون فقالوا : إنا أرسلنا إلى قوم نعلمهم مجرمين لنرسل عليهم حجارة خلقت لمن لا يؤمن ويصر ويسرف ولزم من هذا علمنا بأنهم لو عاشوا سنين لتمادوا في الإجرام، فإن قيل اللام لتعريف الجنس أو لتعريف العهد ؟
نقول لتعريف العهد أي مسومة لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسومة، فإن قيل ما إسرافهم ؟
نقول ما دل عليه قوله تعالى :﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾ (العنكبوت : ٢٨) أي لم يبلغ مبلغكم أحد وقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨١
١٨٢
فيه فائدتان :
إحداهما : بيان القدرة والاختيار فإن من يقول بالاتفاق يقول يصيب البر والفاجر فلما ميز الله المجرم عن المحسن دل على الاختيار.
ثانيها : بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، والضمير عائد إلى القرية معلومة وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٢
١٨٢
فيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون، وقيل في مثاله إن العالم كبدن ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والكفار والفساق كالسموم الواردة عليه الضارة، ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه المضار هلك وإن خلا عن المضار وفيه المنافع طاب عيشه ونما، وإن وجد فيه كلاهما فالحكم للغالب فكذلك البلاد والعباد والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة، والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين، وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس ؟
فيكول له : ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد، فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٢
١٨٢


الصفحة التالية
Icon