المسألة الثانية : كرر ذكر البناء في السموات، قال تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ (الشمس : ٥) وقال تعالى :﴿أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٢٧) وقال تعالى :﴿جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ (غافر : ٦٥) فما الحكمة فيه ؟
نقول فيه وجوه. أحدها : أن البناء باق إلى قيام القيامة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء، وأما الأرض فهي في التبدل والتغير فهي كالفرش الذي يبسط ويطوي وينقل، والسماء كالبناء المبني الثابت، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿سَبْعًا شِدَادًا﴾ (النبأ : ١٢) وأما الأراضي فكم منها ما صار بحراً وعاد أرضاً من وقت / حدوثها. ثانيها : أن السماء ترى كالقبة المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مدحوة والبناء بالمرفوع أليق، كما قال تعالى :﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ (النازعات : ٢٨). ثالثها : قال بعض الحكماء : السماء مسكن الأرواح والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
المسألة الثالثة : الأصل تقديم العامل على المعمول والفعل هو العامل فقوله :﴿بُنْيَـانًا ﴾ عامل في السماء، فما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبنينا السماء بأيد، كان أوجز ؟
نقول الصانع قبل الصنع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع، قدم الدليل فقال والسماء المزينة التي لا تشكون فيها بنيناها فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا.
المسألة الرابعة : إذا كان المقصود إثبات التوحيد، فكيف قال :﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ ولم يقل بنيتها أو بناها الله ؟
نقول قوله :﴿بُنْيَـانًا ﴾ أدل على عدم الشريك في التصرف والاستبداد وقوله بنيتها يمكن أن يكون فيه تشريك، وتمام التقرير هو أن قوله تعالى :﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ لا يورث إيهاماً بأن الآلها التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير في ﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها، فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها/ وإنما يمكن أن يقال إنما بنيت لها وجعلت أماكنها، فلما لم يتوهم ما قالوا قال بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعون فلا يصلحون لنا شركاء لأن كل ما هو غير السماء ودون السماء في المرتبة فلا يكون خالق السماء وبانيها فإذن علم أن المراد جمع التعظيم وأفاد النص عظمته، فالعظمة أنفى للشريك فثبت أن قوله :﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ أدل على نفي الشريك من بنيتها وبناها الله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
فإن قيل : لم قلت : إن الجمع يدل على التعظيم ؟
قلنا الجواب من الوجهين. الأول : أن الكلام على قدر فهم السامع، والسامع هو الإنسان، والإنسان يقيس الشاهد على الغائب، فإن الكبير عندهم من يفعل الشيء بجنده وخدمه ولا يباشر بنفسه، فيقول الملك فعلنا أي فعله عبادنا بأمرنا ويكون في ذلك تعظيم، فكذلك في حق الغائب. الوجه الآخر : هو أن القول إذا وقع من واحد وكان الغير به راضياً يقول القائل فعلنا كلنا كذا وإذا اجتمع جمع على فعل لا يقع إلا بالبعض، كما إذا خرج جم غفير وجمع كثير لقتل سبع وقتلوه يقال قتله أهل بلدة كذا لرضا الكل به وقصد الكل إليه، إذا عرفت هذا فالله تعالى كيفما أمر بفعل شيء لا يكون لأحد رده وكان كل واحد منقاداً له، يقول بدل فعلت فعلنا، ولهذا الملك العظيم أجمعنا بحيث لا ينكره أحد ولا يرده نفس، وقوله تعالى :﴿بِأَى يْدٍ﴾ أي قوة والأيد القوة هذا هو المشهور وبه فسّر قوله تعالى :﴿ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ﴾ (ص : ١٧) يحتمل أن يقال إن المراد جمع اليد، ودليله أنه قال تعالى :﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ (ص : ٧٥) وقال تعالى :﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا﴾ (يس : ٧١) وهو راجع في الحقيقة إلى المعنى الأول وعلى هذا فحيث قال :﴿خَلَقْتُ﴾ قال :﴿بِيَدَىَّ ﴾ وحيث قال :﴿بِأَى يْدٍ﴾ لمقابلة الجمع بالجمع، فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال :﴿وَمَا عَلَّمْتُم﴾ ؟
نقول لفائدة / جليلة، وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير الله والأنعام ليست كذلك، فقال هناك :﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة وكذلك ﴿خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ وفي السماء ﴿بِأَى يْدٍ﴾ من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول، فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال ههنا :﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال :﴿بَنَيْنَـاهَا﴾ بعود الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨


الصفحة التالية
Icon