وقوله تعالى :﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ فيه وجوه. أحدها : أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط به من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة، والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. ثانيها : قوله :}وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى : وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى : أي لقادرون ومنه قوله تعالى :﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ (البقرة : ٢٨٦) أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة، ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول : بنينا السماء، وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها، كما في قوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ (يس : ٨١). ثالثها :﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ الرزق على الخلق. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
استدلالاً بالأرض وقد علم ما في قوله :﴿وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا﴾ وفيه دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش، وقوله تعالى :﴿فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ﴾ أي نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
ثم قال تعالى :﴿وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ استدلالاً بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك، وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند، قال المنطقيون المراد بالشيء الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلاً المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق والصامت، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه.
وقوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لعلّكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكناً فيكون مخلوقاً ولا يكون خالقاً، أو ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح. / ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
أمر بالتوحيد، وفيه لطائف. الأولى : قوله تعالى :﴿فَفِرُّوا ﴾ ينبىء عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعاً وفروا. الثانية : قوله تعالى :﴿إِلَى اللَّه ﴾ بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين، إما لكونه معلوماً وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ (فاطر : ٦) وإما ليكون عاماً كأنه يقول : كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر، ويفوت عليكم ما هو الحق والخير، ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه. والثالثة : الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركاً مؤبداً. الرابعة : في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال :﴿وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا﴾ (الذاريات : ٤٧) ﴿وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا﴾ (الذاريات : ٤٨) ﴿وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا﴾ (الذاريات : ٤٩) ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال :﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ ولم يقل ففروا إلينا، وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيراً، وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيراً، ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة، ويجعل الكلام مختلفاً، نوعاً ترغيباً ونوعاً ترهيباً، وتنبيهاً بالحكاية، ثم يقول لغيره تكلم معه لعلّ كلامك ينفع، لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر، والله تعالى ذكر أنواعاً من الكلام وكثيراً من الاستدلالات والآيات وذكر طرفاً صالحاً من الحكايات، ثم ذكر كلاماً من متكلم آخر هو النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله :﴿إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ﴾ إشارة إلى الرسالة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨


الصفحة التالية
Icon