إشارة إلى نفي الشرك، وفساد ما يقولون بطريق آخر، وهو أن المتصرف إنما يحتاج إلى الشريك لعجزه، والله قادر فلا شريك له، فإنهم قالوا : نحن لا نجعل هذه الأصنام وغيرها شركاء، وإنما نعظمها لأنها بنات الله، فقال تعالى : كيف تجعلون لله البنات، وخلق البنات والبنين إنما كان لجواز الفناء على الشخص، ولولا التوالد لانقطع النسل وارتفع الأصل، من غير أن يقوم مقامه الفصل، فقدر الله التوالد، ولهذا لا يكون في الجنة ولادة، لأن الدار دار البقاء، لا موت فيها للآباء، حتى تقام العمارة بحدوث الأبناء. إذا ثبت هذا فالولد إنما يكون في صورة إمكان فناء الأب، ولهذا قال تعالى في أوائل سورة آل عمران / ﴿الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ (آل عمران : ٢) أي حي لا يموت فيحتاج إلى ولد يرثه، وهو قيوم لا يتغير ولا يضعف، فيفتقر إلى ولد ليقوم مقامه، لأنه ورد في نصارى نجران. ثم إن الله تعالى بيّن هذا بأبلغ الوجوه، وقال إنهم يجعلون له بنات، ويجعلون لأنفسهم بنين، مع أن جعل البنات لهم أولى، وذلك لأن كثير البنات تعين عل كثرة الأولاد، لأن الإناث الكثيرة يمكن منهن الولادة بأولاد كثيرة من واحد. وأما الذكور الكثيرة لا يمكن منهم إحبال أنثى واحدة بأولاد، ألا ترى أن الغنم لا يذبح منها الإناث إلا نادراً، وذلك لما ثبت أن إبقاء النوع بالأنثى أنفع نظراً إلى التكثير، فقال تعالى : أنا القيوم الذي لا فناء لي، ولا حاجة لي في بقاء النوع في حدوث الشخص، وأنتم معرضون للموت العاجل، وبقاء العالم بالإناث أكثر، وتتبرءون منهن والله تعالى مستغن عن ذلك وتجعلون له البنات، وعلى هذا فما تقدم كان إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لابتداء لله، وهذا إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لا فناء له، فإن قيل كيف وقع لهم نسبة البنات إلى الله تعالى مع أن هذا أمر في غاية القبح لا يخفى على عاقل، والقوم كان لهم العقول التي هي مناط التكليف، وذلك القدر كاف في العلم بفساد هذا القول ؟
نقول ذلك القول دعاهم إليه اتباع العقل، وعدم اعتبار النقل، ومذهبهم في ذلك مذهب الفلاسفة حيث يقولون يجب اتباع العقل الصريح، ويقولون النقل بمعزل لا يتبع إلا إذا وافق العقل، وإذا وافق فلا اعتبار للنقل، لأن العقل هناك كاف، ثم قالوا الوالد يسمى والداً، لأنه سبب وجود الولد، ولهذا يقال : إذا ظهر شيء من شيء هذا تولد من ذلك، فيقولون الحمى تتولد من عفونة الخلط، فقالوا الله تعالى سبب وجود الملائكة سبباً واجباً لا اختيار له فسموه بالوالد، ولم يلتفتوا إلى وجوب تنزيه الله في تسميته بذلك عن التسمية بما يوهم النقص، ووجوب الاقتصار في أسمائه على الأسماء الحسنى التي ورد بها الشرع لعدم اعتبارهم النقل، فقالوا يجوز إطلاق الأسماء المجازية والحقيقية على الله تعالى وصفاته، فسموه عاشقاً ومعشوقاً، وسموه أباً ووالداً، ولم يسموه ابناً ولا مولوداً باتفاقهم، وذلك ضلالة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلاً، وسموا الموجود بعد العدم مولوداً ومتولداً، والموجد والداً لزمهم الكفر بسببه والإشراك، فقال لهم ما الذي يحملكم على اطراح الشرع، وترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم ؟
هل ذلك لطلبه منكم شيئاً فما كان يسعهم أن يقولوا نعم، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا، فنقول لهم : كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظاً إن لم يكن معنى كما تقولون، ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ، ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ /الحسن المؤدب ؟
وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال أم تسألهم ولم يقل أم يسألون أجراً كما قال تعالى :﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ (يونس : ٣٨) وقال تعالى :﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ﴾ (الطور : ٤٢) إلى غير ذلك ؟
نقول فيه فائدتان :
إحداهما : تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم، وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأثقلهم ؟
لا فلا حرج عليك إذاً.
ثانيهما : أنه لو قال أم يسألون لزم نفي أجر مطلقاً وليس كذلك، وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له أنت لا تسألهم أجراً فهم لا يتبعونك وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين وهذا غاية الضلال.


الصفحة التالية
Icon