المسألة الرابعة : ما الفائدة في قوله ﴿فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ ؟
نقول وضوح الأمر، وإشارة إلى أن ما عند النبي صلى الله عليه وسلّم من علم الغيب علم بالوحي أموراً وأسراراً وأحكاماً وأخباراً كثيرة كلها هو جازم بها وليس كما يقول المتفرس، الأمر كذا وكذا، فإن قيل اكتب به خطك أنه يكون يمتنع ويقول أنا لا أدعي فيه الجزم والقطع ولكن أذكره كذا وكذا على سبيل الظن والاستنباط وإن كان قاطعاً يقول اكتبوا هذا عني، وأثبتوا في الدواوين أن في اليوم الفلاني يقع كذا وكذا فقوله ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ يعني هل صاروا في درجة محمد صلى الله عليه وسلّم حتى استغنوا عنه /وأعرضوا، ونقل عن ابن قتيبة أن المراد من الكتابة الحكم معناه يحكمون وتمسك بقوله صلى الله عليه وسلّم :"اقض بيننا بكتاب الله" أي حكم الله وليس المراد ذلك، بل هو من باب الإضمار معناه بما في كتاب الله تعالى يقال فلان يقضي بمذهب الشافعي أي بما فيه، ويقول الرسول الذي معه كتاب الملك للرعية اعملوا بكتاب الملك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٢٣
فيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه التعلق والمناسبة بين الكلامين ؟
قلنا يبين ذلك ببيان المراد من قوله ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ﴾ فبعض المفسرين قال أم يريدون أن يكيدوك فهم المكيدون، أي لا يقدرون على الكيد فإن الله يصونك بعينه وينصرك بصونه، وعلى هذا إذا قلنا بقول من يقول ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ﴾ (القلم : ٤٧) متصل بقوله تعالى :﴿نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (الطور : ٣٠) فيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنهم لما قالوا ﴿نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ قيل لهم أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أم تريدون كيداً فتقولون نقتله فيموت قبلنا فإن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم، وأما على ما قلنا إن المراد منه أنه صلى الله عليه وسلّم لا يسألكم على الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لولا هدايته لكونه من الغيوب، فنقول فيه وجوه الأول : أن المراد من قوله تعالى :﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ﴾ أي من الشيطان وإزاغته فيحصل مرادهم كأنه تعالى قال أنت لا تسألهم أجراً وهم يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ورضوا بإزاغته، والإرادة بمعنى الاختيار والمحبة، كما قال تعالى :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ﴾ (الشورى : ٢٠) وكما قال :﴿ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ (الصافات : ٨٦) وأظهر من ذلك قوله تعالى :﴿إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُواأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ﴾ (المائدة : ٢٩) الوجه الثاني : أن يقال إن المراد والله أعلم أم يريدون كيداً لله فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون، وترتيب الكلام هو أنهم لما لم يبق حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب بهم والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويهديهم إلى ما لا علم لهم ولا كتاب عندهم وهم يعرضون، فهم يريدون إذاً أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراج كيد والإملاء لازدياد الإثم، كذلك لا يقال هو فاسد لأن الكيد والإساءة لا يطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة، وكذلك المكر فلا يقابله أساء الله إلى الكفار ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً فيهم شيء من ذلك، ثم قال بعد ذلك بسببه لفظاً في حق الله تعالى كما في قوله تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) وقال :﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ (البقرة : ١٩٤) وقال :﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه ﴾ (آل عمران : ٥٤) وقال :﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ (الطارق : ١٥، ١٦) لأنا نقول الكيد ما يسوء من نزل به وإن حسن ممن وجد منه، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال :﴿لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ (الأنبياء : ٥٧) من غير مقابلة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٢٣


الصفحة التالية
Icon