ثم قال تعالى :﴿وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى ﴾ والمشهور أن هو ضمير جبريل وتقديره استوى كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي، فسد المشرق لعظمته، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلّم معناه استوى بمكان وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر لا حقيقة في الحصول في المكان، فإن قيل كيف يجوز هذا والله تعالى يقول :﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالافُقِ الْمُبِينِ﴾ (التكوير : ٢٣) إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟
نقول وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا ههنا إنه صلى الله عليه وسلّم رأى جبريل وهو بالأفق المبين يقول القائل رأيت الهلال فيقال له أين رأيته فيقول فوق السطح أي أن الرائي فوق السطح لا المرئي و﴿الْمُبِينُ﴾ هو الفارق من أبان أي فرق، أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك فإنه صلى الله عليه وسلّم انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته وهو واصل إلى الأفق الأعلى والأفق الفارق بين المنزلتين، فإن قيل ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ (النجم : ٨) إلى غير ذلك، وقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾ (النجم : ١٤) كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟
نقول سنبين موافقته لما /ذكرنا إن شاء الله في مواضعه عند ذكر تفسيره، فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث ورد في الأخبار أن جبريل صلى الله عليه وسلّم أرى النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه على صورته فسد المشرق فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول أن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده، لكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ وفيه وجوه مشهورة أحدها : أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا ففي ثلاثة وجوه أحدها : فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي صلى الله عليه وسلّم الثاني : الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث : دنا أي قصد القرب من محمد صلى الله عليه وسلّم وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم الثاني : على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله ﴿فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى ﴾ (النجم : ٧) أن محمداً صلى الله عليه وسلّم دنا من الخلق والأمة ولان لهم وصار كواحد منهم أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال :﴿إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ﴾ (فصلت : ٦) وعلى هذا ففي الكلام كمالان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد، فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث : وهو ضعيف سخيف، وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان، اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة، وعلى هذا يكون فيه ما في قوله صلى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه تعالى "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن مشى إليّ أتيته هرولة" إشارة إلى المعنى المجازي، وههنا لما بيّن أن النبي صلى الله عليه وسلّم استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب الله منه تحقيقاً لما في قوله "من تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً".
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١


الصفحة التالية
Icon