المسألة الثالثة : إن قلنا معناه رأى الله كيف يفهم ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾ ؟
قلنا فيه أقوال : الأول : قول من يجعل الله في مكان وهو باطل، وقد بالغنا في بيان بطلانه في سورة السجدة الثاني : رآه محمد صلى الله عليه وسلّم وهو ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾ لأن الظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما ذكرنا من المثال يقال رأيت الهلال، فيقاله لقائله أين رأيته ؟
فيقول على السطح وربما يقول عند الشجرة الفلانية، وأما إن قلنا إن المراد جبريل عليه السلام فالوجهان ظاهران وكون النبي صلى الله عليه وسلّم مع جبريل عند سدرة المنتهى أظهر.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
المسألة الرابعة : إضافة السدرة إلى المنتهى من أي (أنواع) الإضافة ؟
نقول يحتمل وجوهاً أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه يقال أشجار بلدة كذا لا تطول من البرد ويقال أشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك، وقيل لا يتعداه روح من الأرواح وثانيها : إضافة المحل إلى الحال فيه، يقال : كتاب الفقه، ومحل السواد، وعلى هذا فالمنتهى عند السدرة تقديره سدرة عند منتهى العلوم ثالثها : إضافة الملك إلى مالكه يقال دار زيد وأشجار زيد وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال الله تعالى :﴿إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ (النجم : ٤٢) فالمنتهى إليه هو الله وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم، ويقال في التسبيح : يا غاية مناه، ويا منتهى أملاه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
ثم قال تعالى :﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ وفي الجنة خلاف قال بعضهم جنة المأوى هي الجنة التي وعد بها المتقون، وحينئذ الإضافة كما في قوله تعالى :﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ (فاطر : ٣٥) وقيل هي جنة أخرى عندها يكون أرواح الشهداء وقيل هي جنة للملائكة وقرىء بالهاء من جن بمعنى أجن يقال جن الليل وأجن، وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الضمير في قوله ﴿الْمُنتَهَى * عِندَهَا﴾ عائداً إلى النزلة، أي عند النزلة جن محمداً المأوى، والظاهر أنه عائد إلى السدرة وهي الأصح، وقيل إن عائشة أنكرت /هذه القراءة، وقيل إنها أجازتها.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
فيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في ﴿إِذْ﴾ ما قبلها أو ما بعدها فيه وجهان، فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان : أظهرهما ﴿رَءَاهُ﴾ (النجم : ١٣) أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى، والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة، تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة، وإن قلنا ما بعده، فالعامل فيه ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾ (النجم : ١٧) أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها، وسنذكره عند تفسير الآية.
المسألة الثانية : قد ذكرت أن في بعض الوجوه ﴿سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾ هي الحيرة القصوى، وقوله ﴿يَغْشَى السِّدْرَةَ﴾ على ذلك الوجه ينادي بالبطلان، فهل يمكن تصحيحه ؟
نقول يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة، أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين، ورأى محمد صلى الله عليه وسلّم عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته، والأول هو الصحيح، فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة.
المسألة الثالثة : ما الذي غشى السدرة ؟
نقول فيه وجوه الأول : فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل، وإن لم يصح فلا وجه له الثاني : الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور، وهو قريب، لأن المكان مكان لا يتعداه الملك، فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين، كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها الثالث : أنوار الله تعالى، وهو ظاهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما وصل إليها تجلى ربه لها، كما تجلى للجبل، وظهرت الأنوار، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكاً، ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقاً، ولم يتزلزل محمد الرابع : هو مبهم للتعظيم، يقول القائل : رأيت ما رأيت عند الملك، يشير إلى الإظهار من وجه، وإلى الإخفاء من وجه.
المسألة الرابعة :﴿يَغْشَى﴾ يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان، يقال فلا يغشاني كل وقت، أي يأتيني، والوجهان محتملان، وعلى قول من يقول : الله يأتي ويذهب، فالإتيان أقرب.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
ثم قال تعالى :﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon