أي اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما كان عليك، وأكثر المفسرين يقولون : بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى :﴿فَأَعْرِضْ﴾ منسوخ بآية القتل وهو باطل، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ به ؟
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له ﴿وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ (النحل : ١٢٥) ثم لما لم ينفع، قال له ربه : فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخاً، والإعراض من باب أشكاه والهمزة فيه للسلب، كأنه قال : أزل العرض، ولا تعرض عليهم بعد هذا أمراً، وقوله تعالى :﴿مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ لبيان تقديم فائدة العرض والمناظرة، لأن من لا يصغي إلى القول كيف يفهم معناه ؟
وفي ﴿ذِكْرِنَا﴾ وجوه الأول : القرآن الثاني : الدليل والبرهان الثالث : ذكر الله تعالى، فإن من /لا ينظر في الشيء كيف يعرف صفاته ؟
وهم كانوا يقولون : نحن لا نتفكر في آلاء الله لعدم تعلقنا بالله، وإنما أمرنا مع من خلقنا، وهم الملائكة أو الدهر على اختلاف أقاويلهم وتباين أباطيلهم، وقوله تعالى :﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ إشارة إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا ﴿إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ (المؤمنون : ٣٧) وقال تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (التوبة : ٣٨) يعني لم يثبتوا وراءها شيئاً آخر يعملون له، فقوله ﴿مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ إشارة إلى إنكارهم الحشر، لأنه إذا ترك النظر في آلاء الله تعالى لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه. وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه، فلا يبقى إذن فائدة في الدعاء، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان طبيب القلوب، فأتى على ترتيب الأطباء، وترتيبهم أن الحال إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي وقيل آخر الدواء الكي، فالنبي صلى الله عليه وسلّم أولاً أمر القلوب بذكر الله فحسب فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس، فالذكر غذاء القلب، ولهذا قال أولاً : قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر لمن انتفع مثل أبي بكر وغيره ممن انتفع، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل، وقال :﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ﴾ (الأعراف : ١٨٤) ﴿قُلِ انظُرُوا ﴾ (يونس : ١٠١) ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ﴾ (الغاشيه : ١٧) إلى غير ذلك، ثم أتى بالوعيد والتهديد، فلما لم ينفعهم قال : أعرض عن المعالجة، واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٦٨
٢٧٢
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ﴾ مبلغهم من العلم} ﴿ذَالِكَ﴾ فيه وجوه الأول : أظهرها أنه عائد إلى الظن، أي غاية ما يبلغون به أنهم يأخذون بالظن وثانيها : إيثار الحياة الدنيا مبلغهم من العلم، أي ذلك الإيثار غاية ما بلغوه من العلم ثالثها :﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى ﴾ (النجم : ٢٩) وذلك الإعراض غاية ما بلغوه من العلم، والعلم على هذا يكون المراد منه العلم بالمعلوم، وتكون الألف واللام للتعريف، والعلم بالمعلوم هو ما في القرآن، وتقرير هذا أن القرآن لما ورد بعضهم تلقاه بالقبول وانشرح صدره فبلغ الغاية القصوى، وبعضهم قبله من حيث إنه معجزة، واتبع الرسول فبلغ الدرجة الوسطى، وبعضهم توقف فيه كأبي طالب، وذلك أدنى المراتب، وبعضهم رده وعابه، فالأولون لم يجز الإعراض عنهم، والآخرون وجب الإعراض عنهم، وكان موضع بلوغه من العلم أنه قطع الكلام معه الإعراض عنه، وعليه سؤال وهو : أن الله تعالى بين أن غايتهم ذلك : ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له، والصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله ؟
نقول ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله، فكأن عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيحقق العقاب، قال الزمخشري :﴿ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ﴾ كلام معترض بين كلامين، والمتصل قوله تعالى :(فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) وعلى ما ذكرنا المقصود لا يتم إلا به، يكون كأنه تعالى قال : أعرض عنهم فإن ذلك غايتهم، ولا يوجد وراء ما ظهر منهم شيء، وكأن قوله :﴿الَّذِى تَوَلَّى ﴾ إشارة إلى قطع عذرهم بسبب الجهل، فإن الجهل كان بالتولي وإيثار العاجل.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٢


الصفحة التالية
Icon