المسألة الخامسة : في اللمم وفيه أقوال : أحدها : ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه وثانيها : ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران : ١٣٥) ثالثها : اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولاً من غير لبث طويل، ويقال : ألم بالطعام إذا قلل من أكله، وعلى هذا فقوله :﴿إِلا اللَّمَمَ ﴾ يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان : أحدهما : استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش وثانيهما : غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة، ولهذا قال الله تعالى :﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً﴾ (الأعراف : ٢٨) غير أن الله تعالى استثنى منها أموراً يقال : الفواحش كل معصية إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه ثانيها :﴿إِلا﴾ بمعنى غير وتقديره والفواحش غير اللمم وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال : الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة، وإن كان لغيره كما يقال الرجال غير النساء جاؤوني لتأكيد وبيان فلا وثالثها : هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال : لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ وذلك على قولنا :﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ ابتداء الكلام في غاية الظهور، لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور، ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور، والمقدم على الكبائر إذا تاب مغفور الذنب، فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساؤا وأصروا عليها، فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف، وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها، بل ذلك بمشيئة الله تعالى، ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل، وما كان يضيق عنهم مغفرته، والمغفرة من الستر، وهو لا يكون إلا على قبيح، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله، ونسبته إلى نعم الله تجده مقصراً مسيئاً، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر، وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٧
ثم قال تعالى :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُم فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ﴾ وفي المناسبة وجوه أحدها : هو تقرير لما مر من قوله :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ (النجم : ٣٠) كأن العامل من الكفار يقول : نحن نعمل أموراً في جوف الليل المظلم، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله تعالى ؟
فقال : ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم، والله عالم بتلك الأحوال ثانيها : هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات، فكتب على البعض أنه ضال، والبعض أنه مهتد ثالثها : تأكيد وبيان للجزاء، وذلك لأنه لما قال :﴿لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا ﴾ (النجم : ٣١) قال الكافرون : هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن، فقال تعالى :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم﴾ فيجمعها بقدرته على وفق علمه كماأنشأكم، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في :﴿إِذْ﴾ يحتمل أن يكون ما يدل عليه :﴿أَعْلَمُ﴾ أي علمكم وقت الإنشاء، ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ وقد تم الكلام، ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب.
المسألة الثانية : ذكرنا مراراً أن قوله :﴿مِّنَ الارْضِ﴾ من الناس من قال آدم فإنه من تراب، وقررنا أن كل أحد أصله من التراب، فإنه يصير غذاء، ثم يصير نطفة.
المسألة الثالثة : لو قال قائل : لا بد من صرف ﴿إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ﴾ إلى آدم، لأن ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ ﴾ عائد إلى غيره، فإنه لم يكن جنيناً، ولو قلت بأن قوله تعالى / ﴿إِذْ أَنشَأَكُم﴾ عائد إلى جميع الناس/ فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات، وهو قول الفلاسفة ؟
نقول ليس كذلك، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، وقوله تعالى :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول، ومع من حضر وقت الإنزال على قول، ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٧


الصفحة التالية
Icon