المسألة الرابعة : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات، وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً، فما فائدة قوله تعالى :﴿فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ ﴾ ؟
نقول : التنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : إذا قلنا إن قوله ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ تقرير لكونه عالماً بمن ضل، فقوله تعالى :﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ تعلقه به ظاهر، وأما إن قلنا إنه تأكيد وبيان للجزاء، فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها، فكيف يتعلق به ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ ؟
نقول : معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب، ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب، لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة، وعلى هذا قوله :﴿أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه، ويثيبه بما أقدم عليه.
المسألة السادسة : الخطاب مع من ؟
فيه ثلاثة احتمالات الأول : مع الكفار، وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله، فرد عليهم قولهم الثاني كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار الثالث هو مع المؤمنين، وتقريره : هو أن الله تعالى لما قال :﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ (النجم : ٢٩) قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم : قد علم كونك ومن معك على الحق، وكون المشركين على الباطل، فأعرض عنهم ولا تقولوا : نحن على الحق وأنتم على الضلال، لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك، وفوض الأمر إلى الله تعالى، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى، وعلى هذا فقول من قال :﴿فَأَعْرِضْ﴾ منسوخ أظهر، وهو كقوله تعالى :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ : ٢٤) والله أعلم بجملة الأمور، ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين، فخاطبهم الله وقال : هو أعلم بكم أيها المؤمنون، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء، ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى، فإن الأمر عند الله، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي، وهذا يؤيد قول من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٨
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعض المفسرين : نزلت الآية في الوليد بن المغيرة جلس عند النبي صلى الله عليه وسلّم وسمع وعظه، وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً، فقال له رجل : لم تترك دين آبائك، ثم قال له : لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك، فأعطاه بعض ما التزمه، وتولى عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال بعضهم : نزلت في عثمان رضي الله عنه، كان يعطي ماله عطاء كثيراً، فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح : يوشك أن يفنى مالك فأمسك، فقال له عثمان : إن لي ذنوباً أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء، فقال له أخوه : أنا أتحمل عنك ذنوبك إن تعطي ناقتك مع كذا، فأعطاه ما طلب وأمسك يده عن العطاء، فنزلت الآية، وهذا قول باطل لا يجوز ذكره، لأنه لم يتواتر ذلك ولا اشتهر، وظاهر حال عثمان رضي الله عنه يأبى ذلك، بل الحق أن يقال : إن الله تعالى لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم من قبل ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ (النجم : ٢٩) وكان التولي من جملة أنواعه تولى المستغني، فإن العالم بالشيء لا يحضر مجالس ذكر ذلك الشيء، ويسعى في تحصيل غيره، فقال ﴿أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى ﴾ عن استغناء، أعلم بالغيب ؟
المسألة الثانية : الفاء تقتضي كلاماً يترتب هذا عليه، فماذا هو ؟
نقول : هو ما تقدم من بيان علم الله وقدرته، ووعده المسيء والمحسن بالجزاء وتقديره هو أن الله تعالى لما بين أن الجزاء لا بد من وقوعه على الإساءة والإحسان، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم، فلم يكن الإنسان مستغنياً عن سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم وأتباعه، فبعد هذا من تولى لا يكون توليه إلا بعد غاية الحاجة ونهاية الافتقار.
المسألة الثالثة :﴿الَّذِى﴾ على ما قال بعض المفسرين عائد إلى معلوم، وهو ذلك الرجل وهو الوليد، والظاهر أنه عائد إلى مذكور، فإن الله تعالى قال من قبل ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ وهو المعلوم لأن الأمر بالإعراض غير مختص بواحد من المعاندين فقال :﴿أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى ﴾ أي الذي سبق ذكره، فإن قيل : كان ينبغي أن يقول الذين تولوا، لأن (من) في قوله :﴿الَّذِى تَوَلَّى ﴾ للعموم ؟
نقول : العود إلى اللفظ كثير شائع قال تعالى :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه ﴾ (القصص : ٨٤) ولم يقل فلهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٨


الصفحة التالية
Icon