المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَأَعْطَى قَلِيلا﴾ ما المراد منه ؟
نقول : على ما تقدم هو المقدار الذي أعطاه الوليد، وقوله :﴿وَأَكْدَى ﴾ هو ما أمسك عنه ولم يعط الكل، وعلى هذا لو قال قائل إن الإكداء لا يكون مذموماً لأن الإعطاء كان بغير حق، فالامتناع لا يذم عليه، وأيضاً فلا يبقى لقوله ﴿قَلِيلا﴾ فائدة، لأن الإعطاء حينئذ نفسه يكون مذموماً، نقول فيه بيان خروجهم عن العقل والعرف / أما العقل فلأنه منع من الإعطاء لأجل حمل الوزر، فإنه لا يحصل به، وأما العرف فلأن عادة الكرام من العرب الوفاء بالعهد، وهو لم يف به حيث التزم الإعطاء وامتنع، والذي يليق بما ذكرنا هو أن نقول : تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، يعني إعطاء ما وجب إعطاؤه في مقابلة ما يجب لإصلاح أمور الآخرة، ويقع في قوله تعالى :﴿عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ﴾ في مقابلة قوله تعالى :﴿ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ﴾ (النجم : ٣٠) أي لم يعلم الغيب وما في الآخرة وقوله تعالى :﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى * أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (النجم : ٣٦ ـ ٣٨) في مقابلة قوله :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ إلى قوله :﴿لِيَجْزِىَ الَّذِينَ﴾ (النجم : ٣٠ ٣١) لأن الكلامين جميعاً لبيان الجزاء، ويمكن أن يقال : إن الله تعالى لما بين حال المشركين المعاندين العابدين للات والعزى والقائلين بأن الملائكة بنات الله شرع في بيان أهل الكتاب، وقال بعدما رأيت حال المشرك الذي تولى عن ذكرنا، أفرأيت حال من تولى وله كتاب وأعطى قليلاً من الزمان حقوق الله تعالى، ولما بلغ زمان محمد أكدى فهل علم الغيب فقال شيئاً لم يرد في كتبهم ولم ينزل عليهم في الصحف المتقدمة، ووجد فيها بأن كل واحد يؤاخذ بفعله ويجازى بعمله، وقوله تعالى :﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى ﴾ يخبر أن المتولي المذكور من أهل الكتاب.
المسألة الخامسة : قيل هو من بلغ الكدية وهي الأرض الصلبة لا تحفر، وحافر البئر إذا وصل إليها فامتنع عليه الحفر أو تعسر يقال : أكدى الحافر، والأظهر أنه الرد والمنع يقال : أكديته أي رددته وقوله تعالى :﴿أَعِندَه عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ﴾ قد علم تفسيره جملة أن المراد جهل المتولي وحاجته وبيان قبح التولي مع الحاجة إلى الإقبال وعلم الغيب، أي العلم بالغيب، أي علم ما هو غائب عن الخلق وقوله :﴿فَهُوَ يَرَى ﴾ تتمة بيان وقت جواز التولي وهو حصول الرؤية وهو الوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه، وهناك لا يبقى وجوب متابعة أحد فيما رآه، لأن الهادي يهدي إلى الطريق فإذا رأى المهتدي مقصده بعينه لا ينفيه السماع، فقال تعالى : هل علم الغيب بحيث رآه فلا يكون علمه علماً نظرياً بل علماً بصرياً فعصى فتولى وقوله تعالى :﴿فَهُوَ يَرَى ﴾ يحتمل أن يكون مفعول ﴿يَرَى ﴾ هو احتمال الواحد وزر الآخر كأنه قال فهو يرى أن وزره محمول ألم يسمع أن وزره غير محمول فهو عالم بالحمل وغافل عن عدم الحمل ليكون معذوراً، ويحتمل أن لا يكون له مفعول تقديره فهو يرى رأي نظر غير محتاج إلى هاد ونذير.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٨
٢٧٩
وقوله تعالى :﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى ﴾ حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق فإن من علم الشيء علماً تاماً لا يؤمر بتعلمه، والذي جهله جهلاً مطلقاً وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضاً لا يؤمر فقال : هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي / أولم يسمع شيئاً وما بلغه دعوة أصلاً فيعذر، ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿وَفَّى ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها، فكأنه تعالى يقول : أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك، وهذه أمور مذكورة في صحف موسى، مثال : يقول القائل لمن توضأ بغير الماء توضأ بما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي صلى الله عليه وسلّم بما في صحف موسى ثانيهما : أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها، كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به.
المسألة الثانية : صحف موسى وإبراهيم، هل جمعها لكونها صحفاً كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ (التحريم : ٤) ؟
الظاهر أنها كثيرة، قال الله تعالى :﴿وَأَخَذَ﴾ (الأعراف : ١٥٤) وقال تعالى :﴿وَأَلْقَى الالْوَاحَ﴾ (الأعراف : ١٥٠) وكل لوح صحيفة.


الصفحة التالية
Icon