وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر، والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق، أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ الروح الإنسانية فيه، وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة، وبها كرم الله بني آدم، وإليه الإشارة في قوله :﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ﴾ (المؤمنون : ١٤) غير خلق النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً، وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات، وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ﴾ (المؤمنون : ١٤) بعد خلق النطفة قال ههنا :﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى ﴾ فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر، والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى :﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ (النجم : ٤٢) عند الأكثرين لبيان الإعادة، وقوله تعالى :﴿ثُمَّ يُجْزَاـاهُ الْجَزَآءَ الاوْفَى ﴾ (النجم : ٤١) كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة، ولأنه تعالى قال بعد هذا :﴿وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ﴾ (النجم : ٤٨) وهذا من أحوال الدنيا، وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول : خلق الذكر والأنثى ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، ثم أقناه بالكسب بعد كبره، فإن قيل : فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى :﴿فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَا ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ ﴾ (العنكبوت : ٢٠) نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل، وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وههنا ذكر خلقه من نطفة، كما في قوله :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ ثم قال :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ﴾ (المؤمنون : ١٤) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :﴿عَلَى ﴾ للوجوب، ولا يجب على الله الإعادة، فما معنى قوله تعالى :﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ﴾ / قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلاً، فإن من الحكمة الجزاء، وذلك لا يتم إلا بالحشر، فيجب عليه عقلاً الإعادة، ونحن لا نقول بهذا القول، ونقول فيه وجهان الأول : عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال :﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى ﴾ (يس : ١٢) فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع الثاني : عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه، يقال : وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٣
المسألة الثانية : قرىء :﴿النَّشْأَةَ﴾ على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة، تقول : ضربته ضربتين، أي مرة بعد مرة، يعني النشأة مرة أخرى عليه، وقرىء النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة، وكيفما قرىء فهي من نشأ، وهو لازم وكان الواجب أن يقال : عليه الإنشاء لا النشأة، نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى، ولو قال : عليه الإنشاء ربما يقول قائل : الإنشاء من باب الإجلاس، حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس، وأقمته فما قام فيقال : أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد، فإذا قال : عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزماً.
المسألة الثالثة : هل بين قول القائل : عليه النشأة مرة أخرى، وبين قوله : عليه النشأة الأخرى فرق ؟
نقول : نعم إذا قال : عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولاً، وإذا قال :﴿عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى ﴾ يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى/ فنقول ذلك المعلوم عليه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٨٣
وقد ذكرنا تفسيره فنقول :﴿أَغْنَى ﴾ يعني دفع حاجته ولم يتركه محتاجاً لأن الفقير في مقابلة الغني، فمن لم يبق فقيراً بوجه من الوجوه فهو غني مطلقاً، ومن لم يبق فقيراً من وجه فهو غني من ذلك الوجه، قال صلى الله عليه وسلّم :"أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" وحمل ذلك على زكاة الفطر، ومعناه إذا أتاه ما احتاج إليه، وقوله تعالى : معناه وزاد عليه الإقناء فوق الإغناء، والذي عندي أن الحروف متناسبة في المعنى، فنقول لما كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء، وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان، وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس المحتاج إليهما وفي الجملة كل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء ؛ وكل ما زاد عليه فهو إقناء.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٨٣