إشارة إلى فساد قول قوم آخرين، وذلك لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى، ومن كسل افتقر وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بالبخت، وذلك بالنجوم، فقال :﴿وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ﴾ وإن قائل الغنى بالنجوم غالط، فنقول هو رب النجوم وهو محركها، كما قال تعالى :﴿هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴾ وقوله :﴿هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴾ لإنكارهم ذلك أكد بالفصل، والشعرى نجم مضيء، وفي النجوم شعريان إحداهما شامية والأخرى يمانية، والظاهر أن المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٨٤
لما ذكر أنه :﴿أَغْنَى وَأَقْنَى ﴾ (النجم : ٤٨) وكان ذلك بفضل الله لا بعطاء الشعرى وجب الشكر لمن قد أهلك وكفى لهم دليلاً حال عاد وثمود وغيرهم : و﴿عَادًا الاولَى ﴾ قيل : بالأولى تميزت من قوم كانوا بمكة هم عاد الآخرة، وقيل : الأولى لبيان تقدمهم لا لتمييزهم، تقول : زيد العالم جاءني فتصفه لا لتميزه ولكن لتبين علمه، وفيه قراءات ﴿عَادًا الاولَى ﴾ بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين، و﴿عَادًا الاولَى ﴾ بإسقاط نون التنوين أيضاً لالتقاء الساكنين كقراءة ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ (التوبة : ٣٠) ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ (النجم : ٥٠) و﴿عَادًا الاولَى ﴾ بإدغام النون في اللام ونقل ضمة الهمزة إلى اللام وبهمزة الواو وقرأ هذا القارىء ﴿عَلَى ﴾ (الفتح : ٢٩) ودليله ضعيف وهو يحتمل هذا في موضع و(الهمزة : ٦، ٨) للضمة والواو فهي في هذا الموضع تجزي على الهمزة، وكذا في سؤقه لوجود الهمزة في الأصل، وفي موسى وقوله لا يحسن.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٤
٢٨٤
﴿الاولَى * وَثَمُودَا فَمَآ أَبْقَى ﴾ يعني وأهلك ثمود وقوله :﴿فَمَآ أَبْقَى ﴾ عائد إلى عاد وثمود أي فما أبقى عليهم، ومن المفسرين من قال : فما أبقاهم أي فما أبقى منهم أحداً ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنا بَاقِيَةٍ﴾ (الحاقة : ٨) وتمسك الحجاج على من قال : إن ثقيفاً من ثمود بقوله تعالى :﴿فَمَآ أَبْقَى ﴾.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٤
٢٨٥
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ أي أهلكهم ﴿مِّن قَبْلُ ﴾ والمسألة مشهورة في قبل وبعد تقطع عن الإضافة فتصير كالغاية فتبنى على الضمة. أما البناء فلتضمنه الإضافة، وأما على الضمة فلأنها لو بنيت على الفتحة لكان قد أثبت فيه ما يستحقه بالإعراب من حيث إنها ظروف زمان فتستحق النصب والفتح مثله، ولو بنيت على الكسر لكان الأمر على ما يقتضيه الإعراب وهو الجر بالجار فبنى على ما يخالف حالتي إعرابها.
وقوله تعالى :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ﴾ أما الظلم فلأنهم هم البادئون به المتقدمون فيه "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" والبادىء أظلم، وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم، ولا يدعو نبي على قومه إلا بعد الإصرار العظيم، والظالم واضع الشيء في غير موضعه، والطاغي المجاوز الحد فالطاغي أدخل في الظلم فهو كالمغاير والمخالف فإن المخالف مغاير مع وصف آخر زائد، وكذا المغاير والمضاد وكل ضد غير وليس كل غير ضداً، وعليه سؤال وهو أن قوله :﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ المقصود منه تخويف الظالم / بالهلاك، فإذا قال : هم كانوا في غاية الظلم والطغيان فأهلكوا يقول الظالم هم كانوا أظلم فأهلكوا لمبالغتهم في الظلم، ونحن ما بالغنا فلا نهلك، وأما لو قال أهلكوا لأنهم ظلمة لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله :﴿أَظْلَمَ﴾ ؟
نقول : المقصود بيان شدتهم وقوة أجسامهم فإنهم لم يقدموا على الظلم والطغيان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم، ومع ذلك ما نجا أحد منهم فما حال من هو دونهم من العمر والقوة فهو كقوله تعالى :﴿أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾ (الزخرف : ٨).
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٥
٢٨٥
المؤتفكة المنقلبة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء :﴿وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ ﴾ والمشهور فيه أنها قرىء قوم لوط لكن كانت لهم مواضع ائتفكت فهي مؤتفكات، ويحتمل أن يقال المراد كل من انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه ولهذا ختم المهلكين بالمؤتفكات كمن يقول : مات فلان وفلان وكل من كان من أمثالهم وأشكالهم.
المسألة الثانية :﴿أَهْوَى ﴾ أي أهواها بمعنى أسقطها، فقيل : أهواها من الهوى إلى الأرض من حيث حملها جبريل عليه السلام على جناحه، ثم قلبها، وقيل : كانت عمارتهم مرتفعة فأهواها بالزلزلة وجعل عاليها سافلها.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ على ما قلت : كقول القائل والمنقلبة قلبها وقلب المنقلب تحصيل الحاصل، نقول : ليس معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت.