إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد، فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة، وأقام الدليل على صدقه، وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة، وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفاً لهم، وهذا هو الترتيب الحكمي، ولهذا قال بعد الآيات :﴿حِكْمَة بَـالِغَةٌ ﴾ (القمر : ٥) أي هذه حكمة بالغة، والأنباء هي الأخبار العظام، ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال :﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإا بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل : ٢٢) لأنه كان خبراً عظيماً وقال :﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ﴾ (الحجرات : ٦) أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية، وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وكذلك قال تعالى :﴿ذَالِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ (آل عمران : ٤٤) فكذلك الأنباء ههنا، وقال تعالى عن موسى :﴿لَّعَلِّى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ﴾ (القصص : ٢٩) حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له : نبأ / ولم يقصده، والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم : المراد القرآن، وتقديره جاء فيه الأنباء، وقيل قوله :﴿جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ﴾ يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله :﴿فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ وفي :﴿مَا﴾ وجهان أحدهما : أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما : موصوفة تقديره : جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذاأظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار، كالمرتقى، ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي. [بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٢
٢٩٣
وفيه وجوه الأول : على قول من قال :﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ﴾ المراد منه القرآن، قال :﴿حِكْمَة بَـالِغَةٌ ﴾ بدل كأنه قال : ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها : أن يكون بدلاً عن ما في قوله :﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ الثاني : حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوهاً أحدها : هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها : إنزال ما فيه الأنباء :﴿حِكْمَة بَـالِغَةٌ ﴾ ثالثها : هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث : قرىء بالنصب فيكون حالاً وذو الحال ما في قوله :﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أي جاءكم ذلك حكمة، فإن قيل : إن كان ﴿مَا﴾ موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكراً وتنكير ذي الحال قبيح نقول : كونه موصوفاً يحسن ذلك.
وقوله :﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ فيه وجهان أحدهما : أن ﴿مَا﴾ نافية، ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق، وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى :﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ (الشورى : ٤٨) ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء، فإذا بلغت فقد أتيت بماعليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها بقوله تعالى :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (النحل : ١٢٥) وتول إذا لم تقدر ثانيهما :﴿مَا﴾ استفهامية، ومعنى الآيات حينئذ أنك أتيت بما عليك من الدعوى وإظهار الآية عليها وكذبوا فأنذرتهم بما جرى على المكذبين فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٣
٢٩٣
قوله تعالى :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ قد ذكرنا أن المفسرين يقولون إلى قوله :﴿تَوَلَّ﴾ منسوخ وليس كذلك، بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام.


الصفحة التالية
Icon