ثم قال تعالى :﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ﴾ قد ذكرنا أيضاً أن من ينصح شخصاً ولا يؤثر فيه النصح يعرض عنه ويقول مع غيره : ما فيه نصح المعرض عنه، ويكون فيه قصد إرشاده أيضاً فقال بعدما قال :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ﴾ للتخويف، والعامل / في :﴿يَوْمٌ﴾ هو ما بعده، وهو قوله :﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ﴾ والداعي معرف كالمنادي في قوله :﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ (ق : ٤١) لأنه معلوم قد أخبر عنه، فقيل : إن منادياً ينادي وداعياً يدعو وفي الداعي وجوه أحدها أنه إسرافيل وثانيها : أنه جبريل وثالثها : أنه ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حد العلمية، وإنما يكون ذلك كقولنا : جاء رجل فقال : الرجل، وقوله تعالى :﴿إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ﴾ أي منكر وهو يحتمل وجوهاً أحدها : إلى شيء نكر في يومنا هذا لأنهم أنكروه أي يوم يدعو الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون ثانيها : نكر أي منكر يقول : ذلك القائل كان ينبغي أن لا يكون أي من شأنه أن لا يوجد يقال : فلان ينهى عن المنكر، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع لأنه يرديهم في الهاوية، فإن قيل : ما ذلك الشيء النكر ؟
نقول : الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع، وهذا أقرب، فإن قيل : النشر لا يكون منكراً فإنه إحياء ولأن الكافر من أين يعرف وقت النشر وما يجري عليه لينكره ؟
نقول : يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم :﴿قَالُوا يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ (يس : ٥٢).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٣
٢٩٥
وفيه قراءات خاشعاً وخاشعة وخشعاً، فمن قرأ خاشعاً على قول القائل : يخشع أبصارهم على ترك التأنيث لتقدم الفعل ومن قرأ خاشعة على قوله : تخشع أبصارهم ومن قرأ خشعاً فله وجوه أحدها : على قول من يقول : يخشعن أبصارهم على طريقة من يقول : أكلوني البراغيث ثانيها : في :﴿خُشَّعًا﴾ ضمير أبصارهم بدل عنه، تقديره يخشعون أبصارهم على بدل الاشتمال كقول القائل : أعجبوني حسنهم. ثالثها : فيه فعل مضمر يفسره يخرجون تقديره يخرجون خشعاً أبصارهم على بدل الاشتمال والصحيح خاشعاً، روي أن مجاهداً رأى النبي صلى الله عليه وسلّم في منامه فقال له : يا نبي الله خشعاً أبصارهم أو خاشعاً أبصارهم ؟
فقال عليه السلام : خاشعاً، ولهذه القراءة وجه آخر أظهر مما قالوه وهو أن يكون خشعاً منصوباً على أنه مفعول بقوله :﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ خشعاً أي يدعو هؤلاء، فإن قيل : هذا فاسد من وجوه أحدها : أن التخصيص لا فائدة فيه لأن الداعي يدعو كل أحد، ثانيها : قوله :﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ﴾ بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وإنه باطل، ثالثها : قراءة خاشعاً تبطل هذا، نقول أما الجواب عن الأول فهو أن يقال قوله :﴿إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ﴾ يدفع ذلك لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر وعن الثاني المراد :(من شيء نكر) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إلى الحساب العسر خشعاً ولا يكون العامل في :﴿يَوْمَ يَدْعُ﴾ يخرجون بل اذكروا، أو :﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ كما قال تعالى :﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ﴾ (المدثر : ٤٨) ويكون يخرجون ابتداء كلام، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين ؛ وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو / كأنه يقول : يدعو الداعي قوماً خاشعة أبصارهم والخشوع السكون قال تعالى :﴿وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ﴾ (طه : ١٠٨) وخشوع الأبصار سكونها على كل حال لا تنفلت يمنة ولا يسرة كما في قوله تعالى :﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ (إبراهيم : ٤٣) وقوله تعالى :﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ (القمر : ٧) مثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج، ويحتمل أن يقال : المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٥
٢٩٥
ثم قال تعالى :﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾ أي مسرعين إليه إنقياداً ﴿يَقُولُ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ يحتمل أن يكون العامل الناصب ليوم في قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ (القمر : ٦) أي يوم يدعو الداعي :﴿يَقُولُ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾، وفيه فائدتان إحداهما : تنبيه المؤمن أن ذلك اليوم على الكافر عسير فحسب، كما قال تعالى :﴿فَذَالِكَ يَوْمَـاـاِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَـافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ (المدثر : ٩، ١٠) يعني له عسر لا يسر معه ثانيتهما : هي أن الأمرين متفقان مشتركان بين المؤمن والكافر، فإن الخروج من الأجداث كأنهم جراد والانقطاع إلى الداعي يكون للمؤمن فإنه يخاف ولا يأمن العذاب إلا بإيمان الله تعالى إياه فيؤتيه الله الثواب فيبقى الكافر فيقول :﴿هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٥
٢٩٦


الصفحة التالية
Icon