ثم إنه تعالى أعاد بعض الأنباء فقال :﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ فيها تهوين وتسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلّم فإن حاله كحال من تقدمه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز بالاتفاق وحسن، وإلحاق ضمير الجمع به قبيح عند الأكثرين، فلا يجوزون كذبوا قوم نوح، ويجوزون كذبت فما الفرق ؟
نقول : التأنيث قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولا تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعلها الذي هو فاعله فليس إذا قلنا : ضربت هذه كانت هذه أنثى لأجل الضرب بخلاف الجمع، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم الذي هم فاعلوه، فإنا إذا قلنا : جمع ضربوا وهم ضاربون ليس مجرد اجتماعهم في الوجود يصحح قولنا : ضربوا وهم ضاربون، لأنهم إن اجتمعوا في مكان فهم جمع، ولكن إن لم يضرب الكل لا يصح قولنا : ضربوا، فضمير الجمع من الفعل فاعلون جمعهم بسبب الاجتماع في الفعل والفاعلية، وليس بسبب الفعل، فلم يجز أن يقال : ضربوا جمع، لأن الجمع لم يفهم إلا بسبب أنهم ضربوا جميعهم، فينبغي أن يعلم أولاً اجتماعهم في الفعل، فيقول : الضاربون ضربوا، وأما ضربت هند فصحيح، لأنه لا يصح أن يقال : التأنيث لم يفهم إلا بسبب أنها ضربت، بل هي كانت أنثى فوجد منها ضرب فصارت ضاربة، وليس الجمع كانوا جمعاً فضربوا / فصاروا ضاربين، بل صاروا ضاربين لاجتماعهم في الفعل ولهذا ورد الجمع على اللفظ بعد ورود التأنيث عليه فقيل : ضاربة وضاربات ولم يجمع اللفظ أولاً لأنثى ولا لذكر، ولهذا لم يحسن أن يقال : ضرب هند، وحسن بالإجماع ضرب قوم والمسلمون.
المسألة الثانية : لما قال تعالى :﴿كَذَّبَتْ﴾ ما الفائدة في قوله تعالى :﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : أن قوله :﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ أي بآياتنا وآية الانشقاق فكذبوا الثاني كذبت قوم نوح الرسل وقالوا : لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد : فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره وذلك لأن قوم نوح مشركون يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كل رسول وينكر الرسالة لأنه يقول : لا تعلق لله بالعالم السفلي وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذبوا الثالث : قوله تعالى :﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ للتصديق والرد عليهم تقديره :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وكان تكذيبهم عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق كما يقول القائل : كذبني فكذب صادقاً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٦
المسألة الثالثة : كثيراً ما يخص الله الصالحين بالإضافة إلى نفسه كما في قوله تعالى :﴿إِنَّ عِبَادِى﴾ (الحجر : ٤٢) ﴿فِى عِبَـادِى﴾ (العنكبوت : ٥٦) ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾ ( ص : ١٧٠) ﴿إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا﴾ (يوسف : ٢٤) وكل واحد عبده فما السر فيه ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : ما قيل : في المشهور أن الإضافة إليه تشريف منه فمن خصصه بكونه عبده شرف وهذا كقوله تعالى :﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ﴾ (البقرة : ١٢٥) وقوله تعالى :﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾ (الأعراف : ٧٣) الثاني : المراد من عبدنا أي الذي عبدنا فالكل عباد لأنهم مخلوقون للعبادة لقوله :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) لكن منهم من عبد فحقق المقصود فصار عبده، ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿كُونُوا عِبَادًا لِّى﴾ (آل عمران : ٧٩) أي حققوا المقصود الثالث : الإضافة تفيد الحصر فمعنى عبدنا هو الذي لم يقل : بمعبود سوانا، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهاً فالعبد المضاف هو الذي بكليته في كل وقت لله فأكله وشربه وجميع أموره لوجه الله تعالى وقليل ما هم.
المسألة الرابعة : ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم ؟
نقول : قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفاً لكلام السيد من الرسول، فيكون كقوله تعالى :﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ (الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦).
المسألة الخامسة : قوله تعالى ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه، وقالوا : هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنهم كاذب، بل قالوا مجنون، أي يقول مالا يقبله عاقل، والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا : مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب.


الصفحة التالية
Icon