المسألة السادسة :﴿وَازْدُجِرَ﴾ إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم، نقول : فيه خلاف منهم من قال : إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا، وقالوا : أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر، وهو كقوله تعالى :﴿كُذِّبُوا وَأُوذُوا ﴾ (الأنعام : ٣٤) وعلى هذا إن قيل : لو قال كذبوا عبدنا وزجروه / كان الكلام أكثر مناسبة، نقول : لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم بذكر من تقدمه فقال : وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم، ولو قال : زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال : آذوني ولكن ما تأذيت، وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله، ومنهم من قال :﴿وَازْدُجِرَ﴾ حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر، تقديره قالوا : مجنون مزدجر، ومعناه : ازدجره الجن أو كأنهم قالوا : جن وازدجر، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٦
٢٩٧
ترتيباً في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء ﴿أَنِّى﴾ بكسر الهمزة على أنه دعاء، فكأنه قال : إني مغلوب، وبالفتح على معنى بأني.
المسألة الثانية : ما معنى مغلوب ؟
نقول فيه وجوه الأول : غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث : وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً، ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ (الكهف : ٦)، ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ (فاطر : ٨) وقال تعالى :﴿وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ (المؤمنون : ٢٧) فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم، فيكون معناه (إني) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي.
المسألة الثالثة : فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه أحدها : فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها : فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها : فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه، يقول القائل : اللهم أهلك الكاذب منا، وانصر المحق منا. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٧
٢٩٧
عقيب دعائه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز ؟
نقول فيه قولان أحدهما : حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما : هو على طريق الاستعارة، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب، وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل / فتحت أبواب السماء، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فَفَتَحْنَآ﴾ بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله، كما قال تعالى :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ (يس : ٢٨، ٢٩) بياناً لكمال القدرة، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم.
المسألة الثالثة : الباء في قوله :﴿بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ ما وجهه وكيف موقعه ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول : يفتح الله لك بخير أي يقدر خيراً يأتي ويفتح الباب، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني، وهي أن يجعل المقصود مقدماً في الوجود، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك، وكذلك قول القائل : لعل الله يفتح برزق، أي يقدر رزقاً يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه، فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما :﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾ مقرونة ﴿بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ والانهمار الانسكاب والانصباب صباً شديداً، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٩٧
٢٩٨
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجرنا عيون الأرض، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع، إذا قلت ضاق زيد ذرعاً، أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد، وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon