المسألة الأولى : قال في السماء :﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾ (القمر : ١١) لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور، ولم يقل : وشققنا السماء، وقال في الأرض :﴿وَفَجَّرْنَا الارْضَ﴾ (القمر : ١٢) لأنها ذات الصدع.
الثانية : لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحاراً وأنهاراً، بل قال :﴿عُيُونًا﴾ والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها، فقال :﴿وَفَجَّرْنَا الارْضَ﴾ لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة ههنا ما حصل بالسعة ههنا.
الثالثة : ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى :﴿عَلَى ا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ (القمر : ١٢) أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحاً بقوله تعالى :﴿وَحَمَلْنَـاهُ﴾ وأشار إلى طريق النجاة بقوله :﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾ وكذلك قال في موضع آخر :﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ (العنكبوت : ١٤)، ولم يقل فأهلكوا، وقال :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ﴾ (العنبكوت : ١٥) فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلّم :﴿مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا﴾ (هود : ٤٢) وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقاً وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحاً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٠
الرابعة : قوله تعالى :﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا﴾ أبلغ من حفظنا، يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلباً للمبالغة.
الخامسة :﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ يحتمل أن يكون المراد بحفظنا، ولهذا يقال : الرؤية لسان العين.
السادسة : قال : كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم، وأما جزاء شكره لنا فباق، وقرىء :﴿جَزَآءً﴾ بكسر الجيم أي مجازاة كقتال / ومقاتلة وقرىء :﴿لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ بفتح الكاف، وأما :﴿كُفِرَ﴾ ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له، قال تعالى :﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة : ١٥٢) وقال تعالى :﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ﴾ (البقرة : ٢٥٦). ثانيهما : أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال : كفر به وترك الظهور المراد.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٠
٣٠١
وفي العائد إليه الضمير وجهان أحدهما : عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما : ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند وثانيهما : ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية، والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال :﴿تَّرَكْنَـاهَآ﴾ أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل : تركت فلاناً مثلة أي جعلته، لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلاً عن الآخر.
وقوله تعالى :﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله فهل من مدكر مهتد، وهذا الكلام يصلح حثاً ويصلح تخويفاً وزجراً، وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon