الأولى : قال ههنا ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ﴾ وقال في العنكبوت :﴿وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً﴾ (العنكبوت : ١٥) قلنا هما وإن كانا في المعنى واحداً على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله :﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ (القمر : ١٣) وذكر جريها فقال :﴿تَّرَكْنَـاهَآ﴾ إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك ﴿وَجَعَلْنَـاهَآ﴾ إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل : إن كان الأمر كذلك فكيف قال ههنا ﴿وَحَمَلْنَـاهُ﴾ (القمر : ١٣) ولم يقل : وأصحابه وقال هناك ﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ﴾ ؟
نقول : النجاة ههنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال :﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا﴾ (القمر : ١٤) أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ﴾ لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلاً وأتم فلهذا قال :﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ (هود : ٤٠) يعني المحمول ثم قال تعالى :﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ ﴾ (هود : ٤٤) تصريحاً بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله :﴿ءَايَةً﴾ منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر، ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول / فهي في معناه كأنه قال : تركناها دالة، ويحتمل أن يقال : نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطاً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠١
المسألة الثانية :﴿مُّدَّكِرٍ﴾ مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكو (لما) كان مخرج الذال قريباً من مخرج التاء، والحروف المتقاربة المخرج يصعب النطق بها على التوالي ولهذا إذا نظرت إلى الذال مع التاء عند النطق تقرب الذال من أن تصير تاء والتاء تقرب من أن تصير دالاً فجعل التاء دالاً ثم أدغمت الدال فيها ومنهم من قرأ على الأصل مذتكر ومنهم من قلب التاء دالاً وقرأ مذدكر ومن اللغويين من يقول في مدكر مذدكر فيقلب التاء ولا يدغم ولكل وجهة، والمدكر المعتبر المتفكر، وفي قوله :﴿مُّدَّكِرٍ﴾ إما إشارة إلى ما في قوله :﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾ (الأعراف : ١٧٢) أي هل من يتذكر تلك الحالة وإما إلى وضوح الأمر كأنه حصل للكل آيات الله ونسوها ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ يتذكر شيئاً منها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠٢
وفيه وجهان أحدهما : أن يكون ذلك استفهاماً من النبي صلى الله عليه وسلّم تنبيهاً له ووعداً بالعاقبة وثانيهما : أن يكون عاماً تنبيهاً للخلق ونذر أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسري في قوله تعالى :﴿وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ (الفجر : ٤) وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى :﴿فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ﴾ (العنكبوت : ٥١) ﴿وَلا هُمْ يُنقَذُونَ﴾ (يس : ٤٣) (الزمر : ١٦) وقوله تعالى :﴿قَلِيلا وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ﴾ (الزمر : ١٦) وقوله تعالى :﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة : ١٥٢) وقرىء بإثبات الياء :﴿عَذَابِى﴾ وفيه مسائل :
الأولى : ما الذي اقتضى الفاى في قوله تعالى :﴿مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ﴾ ؟
نقول : أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلّم، فكأنه تعالى قال له قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك، وأما إن قلنا الاستفهام عام فنقول لما قال :﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر : ١٥) فرض وجودهم وقال : يا من يتذكر، وعلم الحال بالتذكير :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى﴾ ويحتمل أن يقال : هو متصل بقوله :﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ تقديره مدكر كيف كان عذابي.
المسألة الثانية : ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم ؟
نقول : أما على قولنا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلّم فقد علم لما علم، وأما على قولنا عام فهو على تقدير الإدكار وعلى تقدير الإدكار يعلم الحال، ويحتمل أن يقال : إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى :﴿الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ﴾ (الحاقة : ١، ٢) و﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ﴾ (القارعة : ١، ٢) وهذا لأن الاستفهام يذكر للأخبار كما أن صيغة هل تذكر للاستفهام فيقال زيد في الدار ؟
بمعنى هل زيد في الدار، ويقول المنجز وعده هل صدقت ؟
فكأنه تعالى قال : عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيماً وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٢


الصفحة التالية
Icon