المسألة الرابعة : قال هنا ﴿فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ وقال في السجدة :﴿فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ (فصلت : ١٦) وقال في الحاقة :﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ (الحاقة : ٧) والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله تعالى :﴿يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم : ٣٣) وقوله :﴿مُّسْتَمِرٌّ﴾ يفيد ما يفيده الأيام لأن الاستمرار ينبىء عن إمرار الزمان كما ينبىء عنه الأيام، وإنما اختلف اللفظ مع اتحاد المعنى، لأن الحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره ولذلك لم يصفها، ثم إن فيه قراءتين إحدهما :﴿يَوْمِ نَحْسٍ﴾ بإضافة يوم، وتسكين نحس على وزن نفس، وثانيتهما :﴿يَوْمِ نَحْسٍ﴾ بتنوين الميم وكسر الحاء على وصف اليوم بالنحس، كما في قوله تعالى :﴿فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ فإن قيل أيتهما أقرب ؟
قلنا : الإضافة أصح، وذلك لأن من يقرأ :﴿يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ يجعل المستمر صفة ليوم، ومن يقرأ يوم نحس مستمر يكون المستمر وصفاً لنحس، فيحصل منه استمرار النحوسة فالأول أظهر وأليق، فإن قيل : من يقرأ يوم نحس بسكون الحاء، فماذا يقول في النحس ؟
نقول : يحتمل أن يقول هو تخفيف نحس كفخذ وفخذ في غير الصفات، ونصر ونصر ورعد ورعد، وعلى هذا يلزمه أن يقول تقديره : يوم كائن نحس، كما تقول في قوله تعالى :﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ﴾ (القصص : ٤٤) ويحتمل أن يقول : نحس ليس بنعت، بل هو اسم معنى أو مصدر، فيكون كقولهم يوم برد وحر، وهو أقرب وأصح.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٥
المسألة الخامسة : ما معنى ﴿مُّسْتَمِرٌّ﴾ ؟
نقول فيه وجوه الأول : ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام، وهذا كقوله تعالى :﴿فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ (فصلت : ١٦) لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد، وكذلك قوله :﴿حُسُومًا ﴾ (الحاقة : ٧) الثاني : شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله :﴿سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ (القمر : ٢) وهذا كقولهم أيام الشدائد، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ﴾ (فصلت : ١٦) فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٥
٣٠٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿تَنزِعُ النَّاسَ﴾ وصف أو حال ؟
نقول : يحتمل الأمرين جميعاً، إذ يصح أن يقال : أرسل ريحاً صرصراً نازعة للناس، ويصح أن يقال : أرسل الريح نازعة، فإن قيل : كيف يمكن جعلها حالاً، وذو الحال نكرة ؟
نقول : الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ (القمر : ٤) فإنه نكرة، وأجابوا عنه بأن ﴿مَا﴾ موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال، فكذلك نقول ههنا الريح موصوفة بالصرصر، والتنكير فيه للتعظيم، وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال، وفيه وجه آخر، وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل، كما تقول : جاء زيد جذبني، وتقديره جاء فجذبني، كذلك ههنا قال :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ (القمر : ١٩) / فأصبحت ﴿تَنزِعُ النَّاسَ﴾ ويدل عليه قوله تعالى :﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى ﴾ (الحاقة : ٧) فالتاء في قوله :﴿تَنزِعُ النَّاسَ﴾ إشارة إلى ما أشار إليه بقوله :﴿صَرْعَى ﴾ وقوله تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ فيه وجوه أحدها : نزعتهم فصرعتهم :﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ كما قال :﴿صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ ثانيها : نزعتهم فهم بعد النزع : كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب، لأن الانقعار قبل الوقوع، فكأن الريح تنزع (الواحد) وتقعر(ه) فينقعر فيقع فيكون صريعاً، فيخلو الموضع عنه فيخوى، وقوله في الحاقة :﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع، وهذا يفيد أن الحكاية ههنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية، فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ثالثها : تنزعهم نزعاً بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، وفي المعنى وجوه أحدها : أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ثانيها : ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض، فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح وثالثها : ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح، فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٦


الصفحة التالية
Icon