المسألة الثانية : قال ههنا :﴿مُّنقَعِرٍ﴾ فذكر النخل، وقال في الحاقة :﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ فأنثها، قال المفسرون : في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك لقوله :﴿مُّسْتَمِرٌّ﴾ (القمر : ١٩، ١١، ٧) وهو جواب حسن، فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ، ويمكن أن يقال : النخل لفظه لفظ الواحد، كالبقل والنمل ومعناه معنى الجمع، فيجوز أن يقال فيه : نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات، ونخل خاوٍ وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات، فإذا قال قائل : منقعر أو خاوٍ أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى، وإذا قال : منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ، وإذا قال : منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ، وربما قال : منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ، وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة، ووصفها على الوجوه الثلاثة، فقال :﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ﴾ (ق : ١٠) فإنها حال منها وهي كالوصف، وقال :﴿نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ (الحاقة : ٧) وقال :﴿نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ فحيث قال :﴿مُّنقَعِرٍ﴾ كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول، لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولاً، كما تقول : امرأة كفيل، وامرأة كفيلة، وامرأة كبير، وامرأة كبيرة. وأما الباسقات، فهي فاعلات حقيقة، لأن البسوق أمر قام بها، وأما الخاوية، فهي من باب حسن الوجه، لأن الخاوي موضعها، فكأنه قال : نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث / اللفظ، فكان الدليل يقتضي ذلك، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٦
٣٠٧
وتفسيره قد تقدم والتكرير للتقرير، وفي قوله :﴿عَذَابِى وَنُذُرِ﴾ لطيفة ما ذكرناها، وهي تثبت بسؤال وجواب لو قال القائل : أكثر المفسرين على أن النذر في هذا الموضع جمع نذير الذي هو مصدر معناه إنذار، فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقل : فكيف كان أنواع عذابي ووبال إنذاري ؟
نقول : فيه إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، وذلك لأن الإنذار إشفاق ورحمة، فقال : الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت، فلما لم تنفع وقع العذاب دفعة واحدة، فكانت النعم كثيرة، والنقمة واحدة وسنبين هذا زيادة بيان حين نفسر قوله تعالى :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن : ١٣) حيث جمع الآلاء وكثر ذكرها وكررها ثلاثين مرة، ثم بين الله تعالى حال قوم آخرين. فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٧
٣٠٨


الصفحة التالية
Icon