والخلق هو ما بالقدرة والإرادة ثانيها : ما ذكروا في الأجسام أن منها الأرواح ثالثها : هو أن الله له قدرة بها الإيجاد وإرادة بها التخصيص، وذلك لأن المحدث له وجود مختص بزمان وله مقدار معين فوجوده بالقدرة واختصاصه بالزمان بالإرادة فالذي بقدرته خلق والذي بالإرادة أمر حيث يخصصه بأمره بزمان ويدل عليه المنقول والمعقول، أما المنقول فقوله تعالى :﴿إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (يس : ٨٢) جعل ﴿كُنَّ﴾ لتعلق الإرادة، واعلم أن المراد من :﴿كُنَّ﴾ ليس هو الحرف والكلمة التي من الكاف والنون، لأن الحصول أسرع من كلمة كن إذا حملتها على حقيقة اللفظ فإن الكاف والنون لا يوجد من متكلم واحد إلا الترتيب ففي كن لفظ زمان والكون بعد بدليل قوله تعالى :﴿فَيَكُونُ﴾ بالفاء فإذن لو كان المراد يكن حقيقة الحرف والصوت لكان الحصول بعده بزمان وليس كذلك، فإن قال قائل : يمكن أن يوجد الحرفان معاً وليس كلام الله تعالى ككلامنا يحتاج إلى الزمان قلنا : قد جعل له معنى غير ما نفهمه من اللفظ. وأما المعقول فلأن الاختصاص بالزمان ليس لمعنى وعلة وإن كان بعض الناس ذهب إلى أن الخلق والإيجاد لحكمة وقال : بأن الله خلق الأرض لتكون مقر الناس أو مثل هذا من الحكم ولم يمكنه أن يقول : خلق الأرض في الزمان المخصوص لتكون مقراً لهم لأنه لو خلقها في غير ذلك لكانت أيضاً مقراً لهم فإذن التخصيص ليس لمعنى فهو لمحض الحكمة فهو يشبه أمر الملك الجبار الذي يأمر ولا يقال له : لم أمرت ولم فعلت ولا يعلم مقصود الآمر إلا منه رابعها : هو أن الأشياء المخلوقة لا تنفك عن أوصاف ثلاثة أو عن وصفين متقابلين، مثاله الجسم لا بد له بعد خلقه أن يكون متحيزاً ولا بد له من أن يكون / ساكناً أو متحركاً فإيجاده أولاً يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ إلى أن قال :﴿مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِه ﴾ (الأعراف : ٥٤) فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم :"أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر" جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف، وكذلك قوله تعالى :﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ ثم قال :﴿يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الارْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه ﴾ (السجدة : ٤، ٥) وقد ذكرنا تفسيره خامسها : مخلوقات الله تعالى على قسمين أحدهما : خلقه الله تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما : خلقه بمهلة كالسموات والإنسان والحيوان والنبات، فالمخلوق سريعاً أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق، وهذا مثل الوجه الثاني سادسها : ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ (فصلت : ١١) وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم الله تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٠
وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولاً ويقطع ثانياً وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن، لأن الله تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ﴾ (العنكبوت : ٦١) ومنه قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ (يس : ٧٧) وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك سابعها : الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن الله خلق الخلق أولاً بمهلة ثم يوم القيامة ببعثهم في أسرع من لحظة، فيكون قوله :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ﴾ كقوله تعالى :﴿فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ (الصافات : ١٩ج وقوله :﴿صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ (يس : ٢٩) ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ (الحاقة : ١٣) وعلى هذا فقوله :﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر : ٤٩) إشارة إلى الوحدانية. وقوله تعالى :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ﴾ إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات ثامنها : الإيجاد خلق والإعدام أمر، يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٠


الصفحة التالية
Icon