وفي الصلصال وجهان أحدهما : هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما : من الصليل يقال : صل الحديد صليلاً إذا حدث منه صوت، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت، إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت، فإن قيل : الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول : أما قوله ﴿مِّن تُرَابٍ﴾ (الحج : ٥) تارة، و﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ (المرسلات : ٢٠) أخرى، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده، ويجوز أن يقال : زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه، وأما قوله :﴿مِّن طِينٍ لازِب ﴾ (الصافات : ١١) ﴿مِّنْ حَمَإٍ﴾ (الحجر : ٢٦) وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولاً من التراب، ثم صار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم لازباً، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك، والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق، وهو مبالغة الفاخر كالعلام في العالم، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٥٠
٣٥٢
وفي الجان وجهان أحدهما : هو أبو الجن كما أن الإنسان المذكور هنا هو أبو الإنس وهو آدم ثانيهما : هو الجن بنفسه فالجان والجن وصفان من باب واحد، كما يقال : ملح ومالح، أو نقول الجن اسم الجنس كالملح والجان مثل الصفة كالمالح.
وفيه بحث : وهو أن العرب تقول : جن الرجل ولا يعلم له فاعل يبني الفعل معه على المذكور، وأصل ذلك جنه الجان فهو مجنون، فلا يذكر الفاعل لعدم العلم به، ويقتصر على قولهم : جن فهو مجنون، وينبغي أن يعلم أن القائل الأول لا يقول : الجان اسم علم لأن الجان للجن كآدم لنا، وإنما يقول بأن المراد من الجان أبوهم، كما أن المراد من الإنسان أبونا آدم، فالأول منا خلق من صلصال، ومن بعده خلق من صلبه، كذلك الجن الأول خلق من نار، ومن بعده من ذريته خلق من مارج، والمارج المختلط ثم فيه وجهان أحدهما : أن المارج هو النار المشوبة بدخان والثاني : النار الصافية والثاني أصح من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ : فلأنه تعالى قال :﴿مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ أي نار مارجة، وهذا كقول القائل : هو مصوغ من ذهب فإن قوله من ذهب فيه بيان تناسب الأخلاط فيكون المعنى الكل من ذهب غير أنه يكون أنواعاً مختلفة مختلطة بخلاف ما إذا قلت : هذا قمح مختلط فلك أن تقول : مختلط بماذا فيقول : من كذا وكذا فلو اقتصر على قوله : من قمح وكان منه ومن وغيره أيضاً لكان اقتصاره عليه مختلط بما طلب من البيان وأما المعنى : فلأنه تعالى كما قال :﴿خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ﴾ (الرحمن : ١٤) أي من طين حر كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة فإن قيل : فكيف يصح قوله :﴿مَّارِجٍ﴾ بمعنى مختلط مع أنه خالص ؟
نقول : النار إذا قويت التهبت، ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجاً جيداً لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة وكأنه من حقيقة واحدة كما في الطين المختمر، وذلك يظهر في التنور المسجور، إن قرب منه الحطب تحرقه فكذلك مارج بعضها ببعض لا يعقل بين أجزائها دخان وأجزاء أرضية، وسنبين هذا في قوله تعالى :﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ (الرحمن : ١٩) فإن قيل : المقصود تعديد النعم على الإنسان، فما وجه بيان خلق الجان ؟
نقول : الجواب عندي من وجوه أحدها : ما بينا أن قوله :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٥٢


الصفحة التالية
Icon