المسألة الثانية : فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات ؟
نقول : إنه مأخوذ من عرف الناس، فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول : رأيته، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلاً لا يقول : رأيته، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس، فإن الإنسان إذا رأى شيئاً علم منه مالم يكن يعلم حال غيبته، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئاً بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام، ثم نقل لي ما ليس بجسم، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف، وقول من قال : إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦١
المسألة الثالثة : لو قال : ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتدع، نقول : ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى، وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق والله عند البعض بمعنى المعبود، فلو قال : ويبقى ربك ربك، وقولنا : ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال : شيء من كل ربك، ثانيهما أن يقال : يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت، وكذلك لو قال : يبقى الخالق والرازق وغيرهما.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه، وقال في موضع آخر :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ (البقرة : ١١٥) وقال :﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه ﴾ ؟
(الروم : ٣٨) نقول : المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة. أما قوله :﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة، وأما قوله :﴿يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه ﴾ فالمذكور هو الزكاة قال تعالى من قبل :﴿فَـاَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ (الروم : ٣٨) ﴿ذَالِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه ﴾ (الروم : ٣٨) ولفظ الله يدل على العبادة، لأن الله هو المعبود، والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال :﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦١
المسألة الخامسة : الخطاب بقوله :﴿رَبِّكَ﴾ مع من ؟
نقول : الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول : ويبقى وجه ربك أيها السامع، ويحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم، فإن قيل : فيكف قال :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ خطاباً مع الإثنين، وقال :﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾ خطاباً مع الواحد ؟
نقول : عند قوله :﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد، وبقاء الله فقال / وجه ربك أي يا أيها السامع فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى، فإن كل من عداه فان، والمخاطب كثيراً ما يخرج عن الإرادة في الكلام، فإنك إذا قلت : لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع يخرج المخاطب عن الوعيد، وإن كان من أهل الموضع فقال :﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ليعلم كل أحد أن غيره فان، ولو قال : وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء، فإن قلت : لو قال ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؟
نقول : كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلو قال : بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب، وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة. فالعبد يقول : ربنا اغفر لنا، ورب اغفر لي، والله تعالى يقول :﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ﴾ (الدخان : ٨) و﴿رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (الفاتحة : ٢) وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ، حيث قال تعالى :﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (سبأ : ١٥) وقال تعالى :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التربية، يقال : ربه يربه رباً مثل رباه يربيه، ويحتمل أن يكون وصفاً من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب، والسمع للحاسة، والبخل للبخيل، وأمثال ذلك لكن من باب فعل، وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا : فلان أعلم وأحكم، فكان وصفاً له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي.


الصفحة التالية
Icon