المسألة الخامسة : ما معنى :﴿لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَـانٍ﴾ ؟
نقول : ذلك يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون بياناً بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك. ثانيها : أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول، وبيان أن ذلك لا ينفعكم، وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله، كما يقول : خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها : أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه ؟
وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال : لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من الله يجيركم وإلا فلا مجير لكم، كما تقول : لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك، لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها : أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد، ووجهه هو كأنه تعالى قال : يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبداً تشاهد دليلاً من دلائل الوحدانية، ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض، فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٦٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟
نقول : إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة، فكأنه تعالى قال : يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار / إن استطعتما النفوذ فانفذا، وإن قلنا : إن النداء في الدنيا، فنقول قوله :﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم، فكأنه قال : إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده، ولا سبيل إليهما.
المسألة الثانية : كيف ثنى الضمير في قوله :﴿عَلَيْكُمَا﴾ مع أنه جمع قبله بقوله :﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ (الرحمن : ٣٣) والخطاب مع الطائفتين وقال :﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ وقال من قبل :﴿لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَـانٍ﴾ ؟
(الرحمن : ٣٣) نقول : فيه لطيفة، وهي أن قوله :﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى، فقال : إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان، وأماقوله تعالى :﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال : لا فرار لكم قبل الوقوع، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني : من حيث اللفظ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله :﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ أيها المعشر وقوله :﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ ليس خطاباً مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا﴾ وهذا يتأيد بقول تعالى :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ﴾ (الرحمن : ٣١) وحيث صرح بالنداء جمع الضمير، وقال بعد ذلك :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا﴾ حيث لم يصرح بالنداء.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٧
المسألة الثالثة : ما الشواظ وما النحاس ؟
نقول : الشواظ لهب النار وهو لسانه، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار، وأما النحاس ففيه وجهان، أحدهما الدخان، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد. وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضاً. فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة، والجن خفاف والنحاس ثقيل، وكذلك إن قلنا : المراد من النحاس الدخان، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح.


الصفحة التالية
Icon