المسألة الرابعة : من قرأ بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : تقديره شيء من نحاس كقولهم : تقلدت سيفاً ورمحاً وثانيهما : وهو الأظهر أن يقول : الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية، وهو الدخان، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب، فإن قيل : على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان، نقول : العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور، فلا يكون لها لهيب وهيبة، وقوله تعالى :﴿وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ نفي لجميع أنواع الانتصار، فلا ينتصر أحدهما بالآخر، ولا هما بغيرهما، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا :﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ (القمر : ٤٤) والانتصار التلبس بالنصرة، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان، والذي يقال فيه : إن الانتصار بمعنى الامتناع :﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ بمعنى لا تمتنعان، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبساً بالنصرة فهو ممتنع لذلك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٧
٣٦٨
إشارة إلى ما أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن، فكأنه تعالى ذكر أولاً ما يخاف منه الإنسان، ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب، ويحتمل أن يقال : إنه تعالى لما قال :﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ (الرحمن : ٢٦) إشارة إلى سكان الأرض، قال بعد ذلك :﴿فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ﴾ بياناً لحال سكان السماء، وفيه مسائل.
المسألة الأولى : الفاء في الأصل للتعقيب على وجوه ثلاثة منها : التعقيب الزماني للشيئين اللذين لا يتعلق أحدهما بالآخر عقلاً كقوله قعد زيد فقام عمرو، لمن سألك عن قعود زيد وقيام عمر، وإنهما كانا معاً أو متعاقبين ومنها : التعقيب الذهني للذين يتعلق أحدهما بالآخر كقولك : جاء زيد فقام عمرو إكراماً له إذ يكون في مثل هذا قيام عمرو مع مجيء زيد زماناً ومنها : التعقيب في القول كقولك : لا أخاف الأمير فالملك فالسلطان، كأنك تقول : أقول لا أخاف الأمير، وأقول لا أخاف الملك، وأقول لا أخاف السلطان، إذا عرفت هذا فالفاء هنا تحتمل الأوجه جميعاً، أما الأول : فلأن إرسال الشواظ عليهم يكون قبل انشقاق السموات، ويكون ذلك الإرسال / إشارة إلى عذاب القبر، وإلى ما يكون عند سوق المجرمين إلى المحشر، إذ ورد في التفسير أن الشواظ يسوقهم إلى المحشر، فيهربون منها إلى أن يجتمعوا في موضع واحد، وعلى هذا معناه يرسل عليكما شواظ، فإذا انشقت السماء يكون العذاب الأليم، والحساب الشديد على ما سنبين إن شاء الله وأما الثاني : فوجهه أن يقال : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فيكون ذلك سبباً لكون السماء تكون حمراء، إشارة إلى أن لهيبها يصل إلى السماء ويجعلها كالحديد المذاب الأحمر، وأما الثالث : فوجهه أن يقال : لما قال :﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ (الرحمن : ٣٥) أي في وقت إرسال الشواظ عليكما قال : فإذا انشقت السماء وصارت كالمهل، وهو كالطين الذائب، كيف تنتصران ؟
إشارة إلى أن الشواظ المرسل لهب واحد، أو فإذا انشقت السماء وذابت، وصارت الأرض والجو والسماء كلها ناراً فكيف تنتصران ؟
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٨


الصفحة التالية
Icon