المسألة الخامسة : ما معنى قوله تعالى :﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ ؟
نقول : المشهور أنها في الحال تكون حمراء يقال : فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة، وحجرة وردة أي حمراء اللون. وقد ذكرنا أن لهيب النار يرتفح في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال : وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود، وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله :﴿إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ (يس : ٥٣) أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئاً مذكراً، فكذا ههنا قال :﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً﴾ واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة، وتزلزل الكل وخرب دفعة، والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك، ويتزلزل، وقوله تعالى :﴿كَالدِّهَانِ﴾ فيه وجهان أحدهما : جمع دهن وثانيهما : أن الدهان هو الأديم الأحمر، فإن قيل : الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر، ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ﴾ (المعارج : ٨) وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال : أسد ورد، فليس الورد هو الأحمر القاني والثاني : أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان والثالث : هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صباً لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي، وكذلك الحديد والنحاس، وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها/ فإن الكواكب تخالف غيرها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٨
٣٦٩
وفيه / وجهان أحدهما : لا يسأله أحد عن ذنبه، فلا يقال : له أنت المذنب أو غيرك، ولا يقال : من المذنب منكم بل يعرفونه بسواد وجوههم وغيره، وعلى هذا فالضمير في ذنبه عائد إلى مضمر مفسر بما يعده، وتقديره لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان يسأل، أي عن ذنبه وثانيهما : معناه قريب من المعنى قوله تعالى :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (الأنعام : ١٦٤) كأنه يقول : لا يسأل عن ذنبه مذنب إنس ولا جان وفيه إشكال لفظي، لأن الضمير في ذنبه إن عاد إلى أمر قبله يلزم استحالة ما ذكرت من المعنى بل يلزم فساد المعنى رأساً لأنك إذا قلت : لا يسأل مسؤول واحد أو إنسي مثلاً عن ذنبه فقولك بعد إنس ولا جان، يقتضي تعلق فعل بفاعلين وأنه محال، والجواب عنه من وجهين أحدهما : أن لا يفرض عائداً وإنما يجعل بمعنى المظهر لا غير ويجعل عن ذنبه كأنه قال : عن ذنب مذنب ثانيهما : وهو أدق وبالقبول أحق أن يجعل ما يعود إليه الضمير قبل الفعل فيقال : تقديره فالمذنب يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، وفيه مسائل لفظية ومعنوية :
المسألة الأولى : اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانياً كأنه يقول : فإذا انشقت السماء يقع العذاب، فيوم وقوعه لا يسأل، وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ، ويحتمل أن يكون عقلياً كأنه يقول : يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم، ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول : تهربون بالخروج من أقطار السموات، وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء، فأقول : لا تمهلون مقدار ما تسألون.


الصفحة التالية
Icon