المسألة السابعة : قوله تعالى :﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ فيه إشارة إلى مخالفتها لجنة دار الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الثمرة في الدنيا على رءوس الشجرة والإنسان عند الاتكاء يبعد عن رءوسها وفي الآخرة هو متكىء والثمرة تنزل إليه ثانيها : في الدنيا من قرب من ثمرة شجرة بعد عن الأخرى وفي الآخرة كلها دان في وقت واحد ومكان واحد، وفي الآخرة المستقر في جنة عنده جنة أخرى ثالثها : أن العجائب كلها من خواص الجنة فكان أشجارها دائرة عليهم ساترة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في الدنيا وجناتها وفي الدنيا الإنسان متحرك ومطلوبه ساكن، وفيه الحقيقة وهي أن من لم يكسل ولم يتقاعد عن عبادة الله تعالى، وسعى في الدنيا في الخيرات انتهى أمره إلى سكون لا يحوجه شيء إلى حركة، فأهل الجنة إن تحركوا تحركوا لا لحاجة وطلب، وإن سكنوا سكنوا لا لاستراحة بعد التعب، ثم إن الولي قد تصير له الدنيا أنموذجاً من الجنة، فإنه يكون ساكناً في بيته ويأتيه الرزق متحركاً إليه دائراً حواليه، يدلك عليه قوله تعالى :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ﴾ (آل عمران : ٣٧).
المسألة الثامنة : الجنتان إن كانتا جسميتين فهو أبداً يكون بينهما وهما عن يمينه وشماله هو يتناول ثمارهما وإن كانت إحداهما روحية والأخرى جسمية فلكل واحد منهما فواكه وفرش تليق بها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٧
٣٧٩
وفيه مباحث :
الأول : في الترتيب وأنه في غاية الحسن لأنه في أول الأمر بين المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به فإن من يدخل بستاناً يتفرج أولاً فقال :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ (الرحمن : ٤٨، ٥٠) ثم ذكر ما يتناول من المأكول فقال :﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ﴾ (الرحمن : ٥٢) ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
الثاني :﴿فِيهِنَّ﴾ الضمير عائد إلى ماذا ؟
نقول : فيه ثلاثة أوجه أحدها : إلى الآلاء والنعم أي قاصرات الطرف ثانيها : إلى الفراش أي في الفرش قاصرات وهما ضعيفان، أما الأول فلأن اختصاص القاصرات بكونهن في الآلاء مع أن الجنتين في الآلاء والعينين فيهما والفواكه كذلك لا يبقى له فائدة، وأما الثاني فلأن الفرش جعلها ظرفهم حيث قال :﴿مُتَّكِـاِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾ (الرحمن : ٥٤) وأعاد الضمير إليها بقوله :﴿بَطَآاـاِنُهَا﴾ (الرحمن : ٥٤) ولم يقل : بطائنهن، فقوله ﴿فِيهِنَّ﴾ يكون تفسيراً للضمير فيحتاج إلى بيان فائدة لأنه تعالى قال بعد هذا مرة أخرى :﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ﴾ (الرحمن : ٧٠) ولم يكن هناك ذكر الفرش فالأصح إذن هو الوجه الثالث : وهو أن الضمير عائد إلى الجنتين، وجمع الضمير ههنا وثنى في قوله :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ﴾ (الرحمن : ٥٠) و: ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ﴾ (الرحمن : ٥٢) وذلك لأنا بينا أن الجنة لها اعتبارات ثلاثة أحدها : اتصال أشجارها وعدم وقوع الفيافي والمهامة فيها والأراضي الغامرة، ومن هذا الوجه كأنها جنة واحدة لا يفصلها فاصل وثانيها : اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات، فإن فيها ما في الدنيا، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف، ومالا يعرف، وفيها ما يقدر على وصفه، وفيها مالا يقدر، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها على النوعين كأنها جنتان وثالثها : لسعتها وكثرة أشحارها وأماكنها وأنهارها ومساكنها كأنها جنات، فهي من وجه جنة واحدةومن وجه جنتان ومن وجه جنات. إذا ثبت هذا فنقول : اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن، وذلك لضيق المكان، أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان، فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن، فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن، واعلم أن الشهوة في الدنيا كما تزداد بالحسن الذي في الأزواج تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في أكثر الأمر تدل عليه، إذا ثبت هذا فنقول : الحظايا في الجنة يجتمع فيهن حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال، فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان فتزداد اللذة بسبب كمالها، فإذن ينبغي أن يكون لكل واحدة ما يليق بها من المكان الواسع فتصير الجنة التي هي واحدة من حيث الاتصال كثيرة من حيث تفرق المساكن فيها فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٩


الصفحة التالية
Icon