المسألة السابعة : ما الحكمة في اختيار لفظ ﴿الْمَشْـاَمَةِ﴾ في مقابلة ﴿الْمَيْمَنَةِ﴾، مع أنه قال في بيان أحوالهم :﴿وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَـابُ الشِّمَالِ﴾ ؟
نقول : اليمين وضع للجانب المعروف أولاً ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع وقالوا : هذا ميمون وقالوا : أيمن به ووضعوا للجانب المقابل / له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال : في مقابلة اليمنى اليسرى، وفي مقابلة الأيمن الأيسر، وفي مقابلة الميمنة الميسرة، ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين، فلا يقال : الأشمل ولا المشملة، وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة، فلا يقال : في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم، وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان، إذا علم هذا فنقول : بعد ما قالوا باليمين لم يتركوه واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي، ولفظ الشمال في مقابلته وحدث لهم لفظان آخران فيه أحدهما : الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان، فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال : غضوب ورءوف، ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانباً آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالاً واللفظ الآخر : المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن، وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرهاً لجعل جانب من جوانب نفسه شؤماً، ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره، فالله تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال :﴿وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ﴾ ﴿وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ﴾ وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر، فقال ههنا :﴿وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ﴾ بأفظع الاسمين، ولهذا قالوا في العساكر : الميمنة والميسرة اجتناباً من لفظ الشؤم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٩١
٣٩٢
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها :﴿وَالسَّـابِقُونَ﴾ عطف على ﴿فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (الواقعة : ٨) وعنده تم الكلام، وقوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ * أولئك الْمُقَرَّبُونَ﴾ جملة واحدة والثاني : أن قوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ جملة واحدة، كما يقول القائل : أنت أنت وكما قال الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه وجهان أحدهما : أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة والثاني : للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ، وهو كمايقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول : لا أعرف من الملك إلا أنه ملك فقوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر وههنا لطيفة : وهي أنه في أصحاب الميمنة قال :﴿مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (الواقعة : ٨) بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وههنا لم يقل : والسابقون ما السابقون، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال / له : إن كنت تعلم فبين الكلام وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له : كذبت ولا يقال : كيف كذا، وما الجواب عن ذلك، فكذلك في :﴿وَالسَّـابِقُونَ﴾ ما جعلهم بحيث يدعون، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ كقول العالم : لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان وثالثها : هو أن السابقون ثانياً تأكيد لقوله :﴿وَالسَّـابِقُونَ﴾ والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح، وعلى الوجه الأوسط قول آخر : وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٩٢


الصفحة التالية
Icon